لطالما خَلقت السجون وما تحيط بها من تفاصيل مرتبطة بالعقوبة والعزلة دوافعَ حقيقية للتدوين والوصف والكتابة، فأصبحت مادة دسمة للأدب، يستعين بتفاصيلها الإنسانية القاصّة والرُواة لصناعة أعمالٍ تؤثر في شرائح كبيرة من البشر، ومن ثم اعتبرت أحد المصادر المهمة لاستلهام نصوص سيناريو خرجت بفضلها أفلام سينمائية مهمة أذكر منها: The Green Mile، و The Experiment، و Bridman of Alcatraz، و The Great Escape، و In the Name of the Father وغيرها، وفي الجانب الدرامي حرص صُنّاع المسلسلات التلفزيونية على الاستفادة من خبايا السجون من أجل الخروج بصور مرئية مثيرة ومشوقة؛ فرأينا مسلسلات Orange Is the New Black و Wentworth وVis a Vis الإسباني والتي تناولت جميعها قصصاً مركز أحداثها سجناً نسائياً، وعلى المستوى العربي كانت هناك تجربة لكاملة أبو ذكرى في عام 2014 بمسلسل سجن النسا. ولمّا كانت الأفكار الإنسانية في حالة تقاطع مستمر، والثيمات الدرامية في تكرار وتمايز تحكمه المُعالجة الفريدة، توّصلت ورشة (مصنع الحكايات) وبالاستناد على قصص حقيقية إلى نص مسلسل (عنبر 6) الذي عُرض موسمه الأول مؤخراً على منصة (شاهد)، وتضمّن اثنتا عشرة حلقة تروي قصصاً لسيدات فرضت عليهن ظروف ومآسي الحياة الوصول إلى عنبرٍ واحد يعكس بخباياه وأسراره واقعنا في سردٍ درامي ميزّته عناصر التشويق والواقعية وكسر القوانين التقليدية، مع إنتاج ضخم وفّرته شركة (إيغل فيلمز) جنباً إلى جنب مع (شاهد) للخروج بأفضل الصور المطلوبة لمسلسلٍ يلتزم بأصول الحرفة ولا ينحرف عن هدف تقديم العبر والرسائل الأخلاقية العليا، ليكسب بذلك الجذب الجماهيري الذي تحقق بتصدّر العمل سلّم المشاهدات في السعودية أولاً ودول الخليج ثانياً، وتراوح بين المراتب الخمسة الأولى في الدول الأوروبية والأميركية ومصر والأردنولبنان وسورية، ناهيك عن مقولته التي لا تخرج عن ترسيخ القيم المهمة في المجتمع. وبشكلٍ ميّزه عن باقي المسلسلات المعروضة مؤخراً عالج (عنبر 6) بتكثيف عالٍ قضايا التسيير لا التخيير، والتذبذب الشخصي، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، والتضحية عبر شخصية (رهف)، وضياع الهوية لدى شخصية (ليلى)، والصحافة الاستقصائية الحرّة التي جسدتها شخصية (آدم)، والزواج المتأخر من دون توافق، والحرمان من الأبناء، والانجراف خلف مواقع التواصل الاجتماعي مع (منى)، والرشاوي والابتزاز، والطمع في الأموال والسلطة عند (فواز)، وسرقة الأطفال التي شهدناها مع (عليا)، والحدس العالي، والخيانة الزوجية والتعصب الديني بغير فهم، وعقوق الوالدين والأمراض العصبية وداء السرقة والسجّانة المسجونة وغيرها من التفاصيل التي يندر - إن لم يستحل - أن تتوفر جميعها في حبكة مسلسل واحد؛ الأمر الذي يُحسب لكافة القائمين عليه. وبعيداً عن الانتقادات التي وُجهت للعديد من الأعمال الدرامية المشتركة جرّاء عدم منطقية تنوع جنسيات الأبطال، وعدم وجود مبررات درامية قوية لهذا التنوع، تميّز المسلسل موضوع التحليل بخلطته العربية الفريدة التي لم تكتفِ بأبطالٍ من سورية ولبنان فحسب - كما جرت العادة - بل استقطبت الحكاية نجوماً من مصر والسعودية والكويتوالعراق، فمن سورية حضرت النجمة سلاف فواخرجي والفنان أنس طيارة، ومن السعودية نايف الظفيري، ومن العراق جمانة كريم، ومن الكويت فاطمة الصفي، ومن الأردن صبا مبارك، ومن مصر أيتن عامر وسلوى محمد علي، ومن لبنان القديرة رندة كعدي، وباسم مغنية، ورانيا عيسى ورنين مطر، وتاتيانا مرعب، وإيلي متري، ونتاشا شوفاني وفادي إبراهيم وعلي منينمة ووائل منصور، وروزي الخولي، بالإضافة للعديد من الأسماء الأخرى. وعلى الرغم من صعوبة تقديم كل هذه الدسامة مع كافة الأبطال اللامعين الذين ورد ذكرهم من دون سَقطات، إلّا أن المخرج علي العلي استطاع بأدواته الخاصة أن ينقلنا إلى عوالم السجن الداخلية والخارجية، فنعيش مع خلفيات السجينات وصراعهن العالي، والوحشية البشرية التي تبتلعهم -أي تبتلعنا وتبتلع علاقتنا بأحبائنا- فشعرنا بأحاسيسهن كما لو أنّها لنا شخصياً، لا سيما مع استخدام المؤثرات الصوتية بالغة الشجن التي أدارها باحترافية بسام العليمي الذي تميز في روائع: (الفيل الأزرق وهيبتا وقبل زحمة الصيف)، ناهيك عن المونتاج الذي جاء دقيقاً في معظم الحلقات عدا بعض الهفوات التي كنت أتمنى لو تمّ استدراكها كي لا تُنقص من متعة الجمهور الذي أصبح يتعرض لسيل جارف من المواد البصرية يوماً تلو آخر وقد لن يتهاون مع مثل هذه الهفوات، ومن الناحية الفنية كان من الضروري أن تتضمّن الشارة أسماء الممثلات والممثلين الأبطال كما يليق بهم/ن؛ إذ كان مستهجناً عدم احتواء شارة البداية أو النهاية على تلك الأسماء، ولا حتى مع ظهورهن/م الأول خلال الحلقات. وبحسب العديد من المحللين الفنيين فلقد وصل (عنبر 6) إلى ذروة نجاحه بسبب بطولة الفنانة سلاف فواخرجي له، فهي من القدرة بمكان أن تضطلّع بأي دور أو شخصية مهما بلغت تعقيداتها النفسية مستندةً على الإحساس العالي، والخبرة الطويلة في أعمال تألقت بها في السابق فأضحت كالجوكر المستعمل في مكانه الصحيح، متسبباً بكسبِ المسلسل وكافة المشاركين به في السباق الدرامي، وأضيف إلى ما سبق أن الثقافة الفنية التي تتمتع بها فواخرجي علاوةً على التزامها ومسؤوليتها تجاه الفريق تسبّبوا بافتتاح الموسم بها وختامه معها أيضاً، فهي – وبسلاسة مطلقة – أوصلت بالكلمة والموقف ونبرة الصوت ولغة العيون والجسد التطورات والانعطافات في رحلة البطلة رهف وعلاقتها بالمحيط بغير مبالغةٍ أو تكلف أو ردود أفعال غير منطقية قد يعتمدها بعض الممثلين بهدف إحقاق جذب المتلقي إليهم، وهذا ما أدركته سلاف منذ البداية عندما بدأت التصوير وكأنه عملها الأول والأخير فدرست نفسية رهف وتقمصتها وأعطتها من ذاتها فأصبحتا إنسانة واحدة على طول حلقات المسلسل، وجسّدت صراعها الداخلي والخارجي حواراً تلو آخر ومشهداً يليه مشهد في تصاعدٍ هرمي مثير وصولاً إلى مشهد حريقٍ حابس للأنفاس ومناسب لافتتاح موسم جديد مع مجموعة واسعة من التساؤلات. كيف ستتصرف رهف حيال صدمة اكتشافها لفواز وبعد خبرة قاسية عاشتها في السجن؟ وإلى أية درجة ستلوم ليلى الضائعة – في الأساس – نفسها على ظلمها لآدم الطيب المساعد المضحي؟ هل سنتعرف على ما أوصل حليمة ورزان وأم سيف إلى السجن تماماً كما تعرفنا على القصص المؤذية لبقية الفتيات والسيدات؟ وهل سيحافظ المسلسل على مستواه العالي مع تحريكه لفكرة مقاومة السجون الداخلية لدينا وتكبيلنا لذواتنا وعجزنا عن التكيف مع مجتمعات وأمكنة وبيئات قد لا تلائمنا؟ نأمل أن نحصل على إجابات مبهرة تؤكد لنا حقيقة أن سقف الإبداع الدرامي العربي قد عاد للارتفاع من جديد.