يلحظ المتأمل في ثنايا صفحات تاريخ المملكة العربية السعودية الحافل عدداً من الأحداث التي كانت بمنزلة تحولات مفصلية تطلّبتها ظروف المرحلة في حينها، ولم يكن هذا ليحدث لولا ما حبا حكام هذا البلد العظيم وقادته من حنكة وحصافة رأي منذ أن وطئت الدرعيةَ أقدامُ الأمير مانع المريدي (الجد الثالث عشر للملك سلمان) قبل 600 عام تقريباً وتأسيسه إمارتَه فيها، ومروراً بإعلان تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود (الجد الخامس للملك سلمان) عام 1139ه / 1727م، ومن ثَم نجاح الإمام تركي بن عبدالله (الجد الثالث) إنعاشَ مشروع الدولة الحلم مرة أخرى من خلال تأسيس الدولة السعودية الثانية عام 1240ه / 1824م. ويستمر الأمل برغم الصعوبات والتعثر، وتتكرّر المحاولة مرة أخرى بدخول المؤسس الملك عبدالعزيز الرياض عام 1319ه/ 1902م، ليتحقق الحلم الذي طالما سعى إليه أجداده بإعلان بدء مشروع الوحدة العظيم للمملكة العربية السعودية عام 1351ه/ 1932م. تهيأ لكل مرحلة فارسُها وإمامها الذي تعامل مع متطلباتها بكل حنكة وتشوّف إلى بناء مستقبل استثنائي، ويستمرّ العطاء من أبناء تلك الأسرة السعودية المالكة التي كأنما عاهدت أرض آبائها وأجدادها بإنجاب رجل المرحلة في كل مرة تحتاج فيها الأوضاع إلى ظهور هذا الفارس؛ فالأئمة محمد بن سعود وتركي بن عبدالله وفيصل بن تركي والملك عبدالعزيز، جميعهم أصحاب رؤية انطلقوا وفق تخطيط ونظرة ثاقبة يحدوها الأمل بالنجاح برغم صعوبة المعطيات وتعدد التحديات. وهبت أرض الجزيرة العربية، الشخصية العظيمة التي انطلق تأثيرها من الدرعية امتداداً إلى باقي أجزاء المنطقة منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، ولا يزال أثرُه باقياً حتى اليوم، وهو الإمام سعود بن عبدالعزيز الكبير الإمام الثالث من أئمة الدولة السعودية الأولى، وكان الإمام سعود ذا نبوغ مبكّر تنبأ من حوله بصفاته القيادية المثالية التي بدت فيه واضحة للعيان منذ توليه ولاية العهد لوالده الإمام عبدالعزيز، كان الإمام سعود الكبير قائد القوات السعودية في عصر والده الذي حقق الكثير من الانتصارات المدوية على أعداء الدولة، وعُدت فترة إمامته الفترةَ الذهبية للدولة السعودية الأولى في أوج عظمة الدولة، واستحق لأجله لقب «الكبير» تعبيراً عما وصلت إليه الدولة من عظمة واتساع، فقد امتد نفوذ الدولة في عهده إلى 95 % من أجزاء الجزيرة العربية؛ من أطراف الشام والعراق إلى أطراف اليمن وعُمان، ومن الخليج العربي إلى البحر الأحمر، وسط استقرار أمني ورفاهية تمتع بها رعاياه في شبه الجزيرة العربية، وازدادت موارد الدولة جراء تلك الوحدة العظيمة في ظل التنوع الاقتصادي مع الاستفادة القصوى من جميع خيراتها لأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية. ولا يخفى على أحدٍ أن الجزيرة العربية عاش أهلها لما يزيد على 1000 عام ولم ينعموا بتلك الوحدة وبذلك السلام الذي عمت أرجاؤه الجزيرة العربية إبان العهد السعودي؛ فقد كان الإمام سعود صاحب رؤية لاكتشاف واقع لم يتم اكتشافُه بعدُ في شبه الجزيرة العربية طوال القرون الماضية، فأخذ على عاتقه تأمين سبل الحج والعمرة، وهو ما أسهم بكل تأكيد في زيادة أعداد الحجيج إلى مكة والمدينة بعد وحدتها، ومضى قُدماً في تنفيذ رؤيته الحلم، برغم المحاولات المغرضة لثنيه عن عزمه من الدولتين العثمانية والفارسية، وكسا الكعبة لأول مرة في تاريخنا السعودي من شبة الجزيرة العربية بعد توقفها من خارجها وتحديداً من الأحساء استثماراً للمقومات المميزة في صناعة النسيج في شرق الجزيرة العربية. واجه الإمام سعود بكل بسالة جميع الحملات الخارجية على دولته العظيمة، وقاد تلك الملفات وصدَّ التهديدات التي ازداد أصحابُها حنقاً مع كل نجاح باهر يحققه لمملكته بالتخطيط الإستراتيجي والدهاء وبُعد النظر، فأُطلق عليه لهذا السبب لقب (أبو شوارب) وعلل ذلك يوهان بوركهارت بكونه يملك لحية وشوارب أطول من المعتاد أو المتعارف عليه لدى الأسرة السعودية المالكة قديماً؛ لذلك لُقب هذا الداهية التاريخي ب(أبو شوارب). اتسعت رؤية الإمام سعود لتشمل نواحي الحياة كافة، ومنها الجوانب الثقافية على وجه التحديد، فظهر ذلك جليّاً في القصور الطينية الشاهقة المشيَّدة في الدرعية، إضافة إلى التطور المعماري العظيم في فترة حكمه التي حفظت لنا براعتَها الشواهدُ القائمة في قصوره بالدرعية، وبرز ذلك أيضاً في جماليات المخطوطات السعودية التي كُتبت في عهده من خلال الزخارف والنقوش، والعجيب كذلك اهتمامه بالخط العربي وبتطوره ونشره من خلال متابعة أدق التفاصيل في جمالياته، ومتابعته تعلم الطلاب فنون هذا الخط وتشجيعهم بتقديم المكافآت المالية لأبرز الخطاطين الواعدين من الشباب. وتستمر هذه الأسرة السعودية المالكة في وفائها بما عاهدت عليه أرضها بالأمس بمنحها رجل المرحلة وفارسها، وها هي ذي اليوم يهبُنا الله منها رجلَ الحاضر والمستقبل الزاهر، صاحبَ رؤية 2030 سموَّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان صاحب النبوغ المبكّر والتخطيط الإستراتيجي في استثمار موارد الدولة لتعزيز مكامن قوتها من خلال رؤية رائدة وقراءة متمعنة للواقع ومحرك لشغف وطموح لدى كل سعودي وسعودية، واليوم مع ذكرى اليوم الوطني تحركت مشاعرنا للبحث في أروقة تاريخنا السعودي الزاخر لنستذكر أوجه التشابه بين الأمس واليوم من خلال أحداثه وشخصياته، فما أشبه الليلة بالبارحة.