منذ أيامها الأولى، وتحديداً في العام 1139ه، كانت الدولة السعودية تحمل مشروعاً نهضوياً لمنطقة لطالما تنازعتها حالة من عدم الاستقرار ومن الخلافات التي فرقت أمرها وجعلته شذر مذر لقرون متعاقبة بقيت خلالها مطوية في مجاهل النسيان، لا تكاد تجد لها ذكراً أو حضوراً حتى في أكثر المدونات التاريخية تكاملاً واستقصاءً لأحوال تلك العصور. وقبيل انتصاف القرن الثاني عشر الهجري بسنوات كانت المنطقة والعالم على موعد مع أحد أهم الانعطافات التاريخية والحضارية، بعد وصول الإمام محمد بن سعود لسدة الحكم في بلدة على ضفاف وادي حنيفة ستكون لاحقاً إحدى أهم المحطات العالمية لصناعة القرار الدولي. «الدرعية» كانت الانطلاقة الأولى للمملكة العربية السعودية التي يتخطى تأسيسها ثلاثة قرون، بعد أن احتضنت البلدة التاريخية بدايات مشروع الدولة وكانت مهد نشأتها ومنطلق تمددها، نظير ما تمتلكه من مقومات فريدة تجمع بين مختلف الأبعاد الاستراتيجية للعواصم المثالية. مقومات الدرعية وتسميتها وتكوينها الجغرافي بالإضافة لأدوارها وقيمتها المعنوية، أمورٌ جميعها تستبعد فرضية المصادفة في هذا الاختيار، وترجح صحة الروايات التاريخية التي تشير إلى حضور فكرة إنشاء الدولة وتأسيسها في هذا الموقع من قبل الأمير مانع المريدي - الجد الأكبر لأسرة آل سعود - الذي ارتحل من شرق البلاد ميمماً وجهه شطر «الدرعية» ليقيم إمارته هناك ويطلق طموحاته بالاستقلال بمنطقة نجد ومن ثم الجزيرة العربية برمتها، ويسمو بها من الارتهان للمشروعات الأجنبية المحيطة. تأسيس الإمارة في الدرعية تبعه العديد من الخطوات والإصلاحات التي أسهمت في توطيد حكمها، ومنحه الثقة لحمل آمال المنطقة وإنقاذها من واقعها المرير، فلم يمض الكثير من الوقت حتى تمكن مانع المريدي وأبناؤه من بعده من حماية مسارات قوافل التجارة والحج وإيقاف أعمال السلب والنهب وقطع الطريق التي عرفت بها تلك الأنحاء طوال سنوات مضت، إلى جانب قيامهم بتهيئة «الدرعية» لاستقطاب القادمين من مختلف البلدات والقبائل للإقامة والسكنى على خلاف السائد حينها، وظلت لعقود على هذا النحو، قبل أن تدخل البلدة التاريخية مرحلة أخرى تنتقل فيها من الإمارة الصغيرة إلى الدولة على يد الإمام محمد بن سعود في منتصف العام 1139، الموافق للثاني والعشرين من فبراير 1727م. تولي الإمام محمد بن سعود لإمارة الدرعية كان حدثاً مفصلياً في تاريخ المنطقة برمتها، فلم تمض سنوات منذ ذلك التاريخ حتى تمكن من رسم مسار حديث لإمارته الصغيرة حينها، ويخرج بها من النمط السائد في تلك الفترة، فكانت على خلاف بقية البلدات المحيطة مركزاً تنويرياً لبث العلم والمعرفة في مجتمعها والمجتمعات المجاورة حولها، بعد توطيد الأمن وتعزيز التواصل بين أفراد المجتمع؛ ليخلق بذلك أنموذجاً فريداً في الإدارة والاستقرار، ذاع إثره صيت البلدة، فكانت محطاً للأنظار وموئلاً للاستقرار. بدايات الدولة وتأسيسها في ظل تلك الظروف منحاها ثقة أهالي المنطقة والمناطق المجاورة، وأكسباها الشرعية المعتبرة، وهيأا لبناء دولة مدنية حديثة يمتد عمرها لثلاثة قرون، مرت خلالها بالعديد من الأحداث الجسام، وتمكنت بفضل حنكة قياداتها وعزمهم وهمتهم من اجتيازها مرة بعد أخرى، واصلت خلالها مسيرتها المظفرة بالرغم من تكالب الظروف وتربص الأعداء ودخولها في معارك وصراعات ليست عادلة ولا متكافئة؛ خرجت منها جميعاً بعزيمة متجددة ورؤية طموحة صاغها الملك عبدالعزيز بعد استعادة الدولة في أحد أهم منعطفاتها التاريخية، من خلال استدراكه وتعديله للبيت الشعري المنحوت على أحد جدران قصر الحكم بالرياض، في حادثة تاريخية شهيرة، ألمح فيها إلى تجدد الطموح لصناعة أنموذج حضاري يجاوز تركة البناة الأوائل ويفوقها في المجد والعلياء: نبني كما كانت أوائلنا تبني ونصنع فوق ما صنعوا ولا تزال تلك الروح المتطلعة للمستقبل النهضوي فتية في ثياب أبنائه البررة وممتدة لأحفادهم من بعدهم، فكانت اللبنات تتحول لتنمية تطال كل شبر من هذه الجزيرة الشاسعة، فهذه رؤية المملكة 2030 التي انطلقت في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز تضج بطموحاتها سماء المنجزات وتتحول ببرامجها التنفيذية التي يشرف عليها ويتابعها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز إلى بناء شامخ وهمة تطاول جبال طويق بل وتسمو فوق السحاب.