الأدب العربي لم يكن بعيداً عن حركة التحول إلى المدرسة الرمزية التي عزت وطغت علي الأدب العالمي والفكر الغربي، فانتقلت الرمزية إلى الأدب العربي علي يد أدباء ورواد، أمثال: عبدالرحمن شكري، وأحمد زكي أبوشادي. وفي الأدب العربي الرمزية لم تكن مذهباً محدداً، بل دخلت أعمال أدباء العرب من خلال اطلاعهم علي الثقافة الغربية، وتظهر ملامح الأدب الرمزي في قصائد الشعر الحر الذي مال إليه معظم الشعراء المعاصرين، مثل: صلاح عبدالصبور، ومحمود درويش، وفدوي طوقان، وبدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، ونازك الملائكة، وغيرهم. والشعراء الرمزيون يعبرون عن أفكارهم ومعتقداتهم الشعرية عبر توظيف الأساطير بشكل يعكس ثقافتهم وسعة اطلاعهم، وقد ظهرت أساطير العنقاء والسندباد وشهرزاد كثيراً في شعر الرمزيين، كما استلهم الرمزيون قصصاً كثيرة في أشعارهم، مثل: قصة صقر قريش وأصحاب الكهف وسدوم وغيرها، إضافة إلى الأساطير الإغريقية الشهيرة، مثل: فاوست وسيزيف وبعض المفاهيم الدينية في الأديان والمذاهب الأخرى. والشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب (1926م) استخدم الرمز والأسطورة للتعبير عن الفكرة أو الحالة التي يعيشها، وربما لا يستطيع تناولها صراحة في ظل ظروف سياسية أو دينية أو اجتماعية تقيّد الشاعر بقيودها فيلجأ إلى الرمز كإحدى خصائص الشعر الرمزي. وظهر ذلك جليّاً في قصائده المطولة، مثل: (حفار القبول، الأسلحة والأطفال، والمومس العمياء ومدينة السندباد وأنشودة المطر، وبروس في بابل والنهر والموت وغيرها). وقد استدعى السيّاب رمز صلب المسيح (كما في الدين المسيحي) ليعبر عن الظلم والاضطهاد الذي تعرض له هو وعائلته، ويقول وقد اتحدت شخصيته بفكرة هذا الرمز: بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياحْ في نواحٍ طويل تسفُّ النخيل والخطى وهي تنأى، إذن فالجراحْ والصليب الذي سمَّروني عليه طوالَ الأصيلْ لم تمتني، وأنصتُّ: كان العويل يعبر السهل بيني وبين المدينةْ مثل حبل يشدُّ السفينةْ وهي تهوي إلى القاعْ ويستدعي كذلك الشاعر بدر شاكر السيّاب أكثر من أسطورة، مثل: أسطورة (عشتار) وهي آله الخصب التي تظهر رمزيتها وملامحها بوضوح في قصيدته (أنشودة المطر) حيث يقول: عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَر أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ وتظهر أيضًا أسطورة سربروس اليونانية، وهي أسطورة تتحدث عن كلب يوناني يحرس مملكة الموت، وتظهر هذه الأسطورة في شعر السيَّاب في قصيدته (سربروس في بابل)، التي يقول فيها: ليعو سربروس في الدروبْ في بابلَ الحزينةِ المهدمةْ ويملأ الفضاءُ زمزمهْ يمزِّقُ الصغارُ بالنيوبِ يقضمُ العظامْ ويشربُ القلوبْ عيناهُ نيزكانِ في الظلامْ وشدقُهُ الرهيبُ موجتانِ منْ مدى تخبِّئُ الرَّدى أشداقُهُ الرهيبةُ الثلاثَةُ احتراقْ يؤجّ في العراقْ وفي قصيدته (مدينة السندباد) يستخدم السياب أسطورة أدونيس (وهو إله الخير والنعم عند الإغريق)، ولكنه لا يرى الخير إلا سراباً بسبب ظروفه التي يعيشها: أهذا أدونيسُ، وهذا الحواءْ؟ وهذا الشحوبُ، وهذا الجفافْ؟ أهذا أدونيسُ؟ أين الضياءْ؟ أين القطافْ؟ كما أن السياب لجأ إلى الرموز الدينية أيضاً سواء الإسلامية أو غيرها، وفي قصيدة مدينة السندباد أيضاً يستدعي السيّاب شخصية الرسول محمد (ص) ليعبر عن حالة الهوان والضعف التي حلّت بالأمة، حيث يقول: همُ التتارُ أقبلوا ففي المَدى رعافْ وشمُسنا دمٌ وزادُنا دمٌ على الصِّحافْ محمدُ اليتيمُ أحرقُوه فالمساءْ يضيءُ من حريقِه وفارَتْ الدمَاءْ من قدمَيه من يدَيه من عيونِه وأحرق الإلهُ في جفونِه محمَّدُ النبيُّ في حراءَ قيَّدوه فسمِّر النهار حيثَ سمَّروهْ غدًا سيصلبُ المسيحُ في العراقْ ستأكلُ الكلابُ من دمِ البراقْ ومن الرموز الدينية التي وظفها السيّاب شخصية النبي (أيوب) عليه السلام في قصيدته (سفر أيوب)، وذلك للتعبير عن معاناته مع المرض وأمله بالشفاء والعودة إلى أهله معافى، يقول: وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد أساطير آبائها للوليد وغابات ليل السُّهاد الغيوم تحجّبُ وجه السماء وتجلوه تحت القمر وإن صاح أيوب كان النداء: لك الحمد يا رامياً بالقدرْ ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاءْ وفي قصيدته (إلى جميلة بوحيدر) يستلهم السيّاب معاني الطبيعة لخدمة قصائده الرمزية، فتارة يذكر المطر، وتارة النخيل كما يظهر في قصيدته (أنشودة المطر)، ويرمز للجوع بالمطر في ظل انتظار الخصب والنماء، ويكثر استخدام المطر في شعره ومنها هذه القصيدة إلى جميلة بوحيدر: جاء زمانٌ كانَ فيهِ البشرْ يفدونَ من أبنائِهم للحَجرْ يا ربُّ عطشَى نحنُ هاتِ المطرْ روِّ العطاشَى منه روِّ الشجرْ وتفرض الأحداث السياسية نفسها في شعر بدر شاكر السيّاب، ويجنح الشاعر إلى الرمزية للتعبير عن مواقفه إزاء ما يحدث على الصعيد السياسي والاجتماعي في العراق، ففي قصيدته (مدينة بلا مطر) يقول: ولكن مرّت الأعوام كثرا ما حسبناه بلا مطر ولو قطرة ولا زهرة ولو زهرة بلا ثمر كأنّ نخيلنا الجرداء أنصاب أقمناها لنذبل تحتها ونموت وفي قصيدته (النهر والموت) يسافر السيّاب مع بويب (النهر) في رحلة الموت طلباً للحياة، متخذاً من بويب رمزية تجسد لنا معاني التضحية وبعدها الإنساني؛ فبويب يرمز إلى تدفق الحياة في الأرض والنبات والإنسان: بويب.. بويب أجراس برج ضاع في قرار البحر ألاء في الجرار والغروب في الشجر وتنضح الجرار أجراسا من المطر والاغتراب بمفهومه التقليدي وببعده المعنوي يظهر كثيراً في شعر بدر شاكر السيّاب، فتأتي مفردة (العراق) لتعبّر عن هذا الحنين للوطن، ففي قصيدته (غريب على الخليج) يكرر الشاعر مفردة العراق عدة مرات، فيقول: صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون الريح تصرخ بي عراق والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون والبحر دونك يا عراق كما يوظّف الريح في قصائده ويرمز بها إلى النماء والخصب، ويعبر عنها أيضاً بالاحتجاج والحركة الدائبة لتغيير واقع لا يرضاه، يقول في قصيدة (غريب على الخليج): الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل ويقول: الريح تصرخ بي عراق والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق فالريح والموج والسفن والليل كلها دلالات رمزية تجعل من العراق مادتها، وتزأر بالحنين تارة وبالاحتجاج تارة أخرى، ولن تتجه سفينة العراق إلى مرساها الآمن إلا بالإصلاح الذي ينشده الشاعر ويحارب من أجله، وإن تملّكه الألم تارة والحنين تارات. وقد أظهر كل ذلك بإبداع يتجاوز نمط القصيدة التقليدية، وبحق كان السيّاب من رواد الشعر الحر والشعر الرمزي على وجه الخصوص مستلهماً الإشارات التاريخية والرموز الدينية والميثولوجيا. وهكذا ظل السيّاب شاعر التحرر وشاعر الحياة التي فارقها غير راضٍ عنها. من أعمال أرنولد بوكلين