وفي الليل يحبو التنهيد ويتأجج هواءُ الحنين المُستبد صنعتُ من الكَمِد أسورةٌ مُهترئة وضعتها على رفًٍ يتيم أتباهى حينما يتنامى إلى سمعيِ قصصاً من كرمِه أزهو كأميرةٌ حينما أسمعهم يتحدثون عنه.. أقفُ في زوايةٍ باردة.. هشّة أُمسكُ بوجهي بين يدي فأجهش ببكائيةٍ عُمرُها ثلاثون عاما.. سقطتُ في وحل الفقْدِ وطينُ الوصب والانكسار.. حينما مات.. أصبحتُ أتنفّس من رئة الآه بعد موتِه.. كان جمْعٌ غفير يملأ ذاك المنزل الواسع وأنا كالنخل الخاوي بلا حراك عزاءٌ أسود طعمُه مُلوحة بُكاء.. كبّرني الحُزن.. وكسرني الوداع فكنتُ طفِلةٌ بقلب كهْلٍ فقد الشّعف.. كنتُ بعد موتِه أُفتّش ُعن غيمة تأتيني برائحة قبره.. كنتً أُغنّي مع المطر أنشودة الرحيل وأكتبُ رساَئلُ تنزِف ماءً شفافاً أعلم أنها لن تصل.. ولن تُقرَأْ.. وأعلم أكثر أنني مُتعبة كورقة خريف صفراء.. غاب عنها الربيع.. بعد موتِه.. بكيتُ فبكيت ثم بكيت ثم ّنمتُ على أريكة وجع وأكملت البُكاء.. بعد موته.. اشتعل رأسي شيبا وانكسر قلبي إلى قطعتين هي أبي وأبي.. وإلى حين يبعثون أبِي.. مات أَبي ذات صيفٍ حزين.. ماتَ الرّجلُ المُحنّك الكريم الرّؤوم.. مات الفارسُ الشُجاع الضرغام.. حمِلت في صدري المكلوم حقيبة ذكرياتي معه.. رسَمتُ في ذاكرتي محوراً أُحاديّ الاستقامة.. أولّه أبي وآخره أبي.. استلقي لأستمعُ إلى ضجيج الحزن لم يكُنُ فقد والدي معي شحيحاً بل كان حاتميُّ الدموع.. نامتُ أعيُن البشَر هانئةً بالرّقاد وعيناي مفتوحَةٌ تتخيّلُ أن الرّحيل كذبة وأن موت أبي كابوس سأفيقُ منه.. لكنني نمتُ فزارني في الحلم مُبتسماً وكأنه يعلم أنني انتظر مجيئه.. في أحلامي يا راحلاً عن سمائي وأرضِي.. وحياتي وأيامي وداعاً يملأ غيوم حُبلى بمطرٍ مُكتمل.. وداعاً بحجم المجراّت والكواكب والأنْجُم.. وداعاً يا سيديّ الباقي في ذاكرة الأهل والأصحاب والأصدقاء.. كانت هُنا أمرأةٌ تُرافقُ الوجع..