من أكثر ما يدعو للإبداع ويحرض على الكتابة بشكل أو بآخر هو الإحساس بالهم الإنساني، بوجع الآخرين وآلامهم، فمسألة الألم لدى المبدع لا تكون ذاتية وحسب، بل تتعدى نطاق الذاتية الضيق إلى مساحات مديدة وذوات أخر عديدة، وخاصة حينما يكون ذلك المبدع وجودياً خالصاً يتأثر بأقل الأحداث وتؤثر به قضايا الآخرين وتفاصيل حياتهم ومواقفهم الخاصة بدرجة عالية. فهم يقرؤون الملامح جيداً ويحللون ردود الأفعال ويفهمون ولكن ليس بذات الكيفية التي يفهما غيرهم، فكل موقف عابر في نظر البعض هو فكرة تنتظم بطريقة أو بأخرى في قافية شاعر أو رواية أديب أو في قصة أو مقالة يكتبها أحدهم بطريقته وأسلوبه الذي يعالج به هذا الموقف العابر. فليس بالضرورة أن يكون ذلك الألم في هذه الحالة شخصياً لأن التشظي بين ذوات الآخرين والوقوف على أبعادهم وآلامهم ومعالجتها تجعل منها حالة إنسانية تؤدي إلى كثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام والحوارات الإبداعية والفنية على حد سواء والتي دائماً ما تمر علينا في دواوين الشعر ولوحات الفنانين وألوانهم المعبرة، أو في سطور أولئك الكتاب الذين يرتبون كلماتهم وأفكارهم ويستودعونها في ذائقة من يقرأ لهم من المعجبين والقراء والمتذوقين لأسرار الإلهام والبيان. ولعل هذا المدخل يقودنا إلى مسألة مهمة يعاني منها الكثير من المبدعين على اختلاف مللهم ونحلهم وآدابهم وفنونهم، وهي عملية إسقاط النص على ذات المبدع مباشرة دون الأخذ في الاعتبار بأن هذا النص حمال أوجه، وقد يحتمل مواقف أو أحداثاً وأخيلة بعيدة كل البعد عن ذات الكاتب نفسه، وخاصة إذا ما علمنا أنهم يستعيرون العالم ويستحضرون شخوصه وأحداثه من كل مكان ويتحدثون في أكثر الأحيان بلسان جمعي يترجم كثيراً من المواقف والأحداث العابرة والقضايا الحية التي تمر عليهم ويتأثرون بها. وعلى كل الأحوال فإنه لا يمكن خلق ذائقة جيدة دون أن يكون هنالك جمهور واعٍ يدرك هذا الأمر ولديه القدرة الكافية على تفكيك ما يقرأ، فالنص سيضع مجراه في النفس ويتفرع إلى متلقيه أخيراً.