لطالما كانت شوارع المدن انعكاساً لطبيعة الحياة فيها، وتفاعلات ساكنيها من أبناء البلد، ولما يمر على الإنسانية بطبيعة الحال من ظروف منها السياسية والاقتصادية، ما يؤدي إلى تفاعل ابن المدينة معها بمختلف الطرق، ولعل تفاعله بطريقة ثقافية والتعبير عن ظروفه أحد هذه التفاعلات التي يمكن أن تخرج من مكنوناته إبداعًا لا حدود له، كأن يمسك فرشاة وأصباغًا، يخربش فيها بطريقة منسجمة مع واقعه، أو حتى ثائرة غاضبة تبعًا لما يعيشه. عُرف فنّ الجداريات بأنه مساحة تعبير لواقع الإنسان، ولوحته الفنية التي يكشف من خلالها عن أفكاره ورغباته ومطالبه، ورفضه واحتجاجه في أحيان أخرى، مستخدمًا الأدوات التي يمكن أن تساعده في إطلاق العنان لنفسه أمام مساحة الجدران الصامتة، والانطلاق في سباق من الرسومات العشوائية أو المنتظمة، التعبيرية منها أو الكتابية. يشير كل من (حلا الصابوني وعلي السرميني) في بحثهما حول (الفن الجداري الآشوري)، إلى أن «فن الجداريات من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، كما أنه يعد أول لغة عرفها الإنسان قبل أن يكون هناك لغة للتخاطب منذ العصور الأولى، ويعد الفن الجداري من أقدم أشكال التعبير الإنساني التي عرفها الإنسان، إذ كانت جدران الكهوف الصخرية أول السطوح التي رسم عليها الفنان القديم لوحاته، ولم تكن هذه الرسوم ذات هدف تزييني في ذلك الوقت، وإنما كان الرسم وسيلة تعبيرية عما يدور في ذهن الإنسان القديم من مخاوف وأفكار ومن حركات رآها من خلال مراقبته للطبيعة من حوله، وذلك قبل أن تظهر الكتابة والخط بزمن كبير». يُعد الفن انعكاسًا مباشرًا لهوية المدينة ورسم صورتها بأكثر الطرق تفرداً وتأثيراً، لذلك نجد لفناني رسم الجداريات مساهمات في تمثيل هوية مدنهم ومناطق عيشهم والتعبير عنها، وما بين الرسومات والكتابة، حظيت الجداريات ذات الهوية العربية باهتمام بالغ التنوع والتجدد، تبعاً لتنوع المواسم واختلاف المناسبات. كما أن ما نراه من وجود للكتابة العربية على جدران المدن والمباني، وتشكيل جداريات بمثابة المعرض الفني المتحدث بصوت المدينة، يوضح لنا ذلك الاندماج ما بين فن (الكاليجرافي Calligraphy) الذي يعني الكتابة الجميلة، وفن (الجرافيتي Graffiti) الذي يعني الكتابة على الجدران. إن المشهد السعودي زاخر دومًا بالجهود الفنية المتنوعة، ولعلّ أبرز ما جاء من حضور للجداريات السعودية بالخط العربي، ما قامت به وزارة الثقافة من مبادرة جداريات الخط العربي في عامي 2020 و2021، ومشروع أنسنة المدن الذي أشرفت عليه هيئة تطوير المدينةالمنورة عام 2018، من خلال العمل على تحسين واجهات البيوت القديمة وإعادة ترميمها وطلائها، وإضافة اللمسات الجمالية بالحروف العربية على جدرانها، بالإضافة لجدارية آية الكرسي المكتوبة بالخط الكوفي المربع على عمارة بنك الأهلي، الواقعة حاليًا في منطقة واجهة قِباء، والقريبة من الحرم النبوي من الجهة الجنوبية. كذلك، الجدارية الواقعة في منطقة حي السفارات في مدينة الرياض، والتي تزيّنت ببيت القصيدة لغازي القصيبي: «وفاتنة أنت مثل الرياض ... ترق ملامحها في المطر»، وجداريات مدينة جدة الواقعة في شارع حمزة شحاتة وطريق المدينة، والتي تجمّلت بالحروف العربية.