سنرى في البداية كيف أن التساؤل والتفكير الفلسفي مفيدان للفكر، وهل يمكن إذاً تعريف فعل التَّفلسف على أنه محاولة في التساؤل حول المعرفة في مواجهة الجهل؟ هل يمكن للفلسفة أن تُسْهم في المصالحة بيننا وبين الغير والعالم المعاصر؟ تساؤلات حول الفلسفة والطريق نحو الحرية والحكمة في هذا العرض لكتاب "لماذا نتفلسف" للكاتبة والأكاديمية (لورانس فانين). لأن التفلسف كما تدافع عنه (لورانس فانين) في كتابها هو مسألة الشاب والشيخ، بل هو أيضاً مسألة الطفل الذي يطرح أسئلة مندهشة ومدهشة، وينتظر من يُقَوم سؤاله ويضبطه ويربطه بوجوده الخاص. يمكن القول بأن الممارسة الفلسفية التي تنبري من هذا الكتاب هي عمل جماعي في اكتشاف الذات واكتشاف الحقيقة في التاريخ وفي باطن كل واحد منا بالأدوات الاستفهامية والتعجبية الباحثة عن العلل والأسباب والمبتغية للغاية. معنى ذلك أن الفائدة التي نجنيها من الفلسفة ليست في النتائج، بل في الوسائل؛ ليست في الغايات، بل في المبادئ، أي أنها تعلم الضبط الفكري للمفاهيم والانضباط الأخلاقي للذات، تعلم كيف يشتغل المرء على ذاته، في الحقيقة دور الفلسفة ككل الأدوار: غالباً ما نلتفت إلى النتائج وندع الوسائل التي أدت إلى النتائج، نقف منبهرين أمام فنان حقق روائع فنية في الرسم أو الغناء، أو الرواية أو الشعر وغيرها من الفنون، لكن ننسى بأن هذه النتائج لم تأتِ من فراغ، بل هيأ لها الفنان الشروط الذاتية والموضوعية لإنجازها بسهر الليالي والمثابرة والعمل الحثيث. يبدو أن التفلسف يتواقت مع فعل التساؤل، حيث كان ميلاد الفلسفة يتميز بالفعل بالدهشة عند اليونان، ولم تكن دهشة ساذجة ومغفلة بل كانت دهشة حدسية تشجع على الفضول الفكري وعلى التأمل، كان الأمر يتعلق بالتساؤل حول الظواهر، والعمل على فهمها، كان الانشغال الفلسفي الأولي يريد معرفة الطبيعة ومختلف مبادئها وفهمها. إذا كانت الفلسفة ترتبط منذ البداية في العصر القديم بالشعائر وبالأسطورة ومن ثم بنوع من الاعتقاد فإنها انفكت عن ذلك. من يقرأ النصوص الفلسفية التي جابت التاريخ ووصلت إلينا، يدرك بشكل بارز الطابع التكويني للفلسفة، التي تعلم كيفية النجاح قبل النجاح نفسه، تعلم الاستعمال السديد والوجيه للوسائل المؤدية إلى النجاح، باستعمال العقل والحكم والنقد، وتقدير الأوضاع ووزن الأمور بمكيال الروَية والحصافة والتبصر، تريد الفلسفة أن تأخذنا بعيداً عن السقوط التدريجي في الانحطاط في جميع المستويات والمجالات. بينما تكمن غاية الفلسفة في ذاتها، في تكوين الإنسان وتثقيفه، في حثه على الانتباه إلى العالم وإلى الآخرين، وهذا العلم أي الفلسفة هو "الوحيد بين العلوم الذي يبقى حراً، لأنه الوحيد الذي له غايته في ذاته" كما قال أرسطو. هذه هي الفلسفة لمن يبحث عن فائدتها، فائدة حضارية روحية، تنمي فينا الحس النقدي بالاشتغال على الذات والانتباه لمسار العالم من حولنا، لأن الفائدة هنا سلوكية وتكوينية تخص كل المجالات. رفض التفكير والإرهاق هما في نظر (لورانس فانين) شبيهان بالاستلاب، فإذا أراد الإنسان أن يكون حراً؛ عليه أن يتعلم التفكير وأن يتثقف من أجل الظفر باستقلالية، يمكن للفكر وقتها أن يتحرر. بتطبيق التعاليم الفلسفية، يمكن للإنسان أن يضع بينه وبين الانفعالات مسافة معتبرة، تساعد الفلسفة على مجافاة الرغبات، ومن ثم تساعد على تحكم أفضل في الذات. وعلى خلاف اللامبالاة التي تجعل منا كائنات معزولة عن الجديد، وعلامة على عدم الاهتمام، تحضر الدهشة والفضول الفكري كاحتياج حقيقي حيث تقودنا الدهشة نحو الشكوك، فما كان بديهياً بدا الآن موضع شك، الشخص الذي يتساءل هو الشخص الذي يعي بجهله، ويشكل هذا الأمر عتبة أولية نحو طريق المعرفة، ويفسر أرسطو المسألة بأن "الدهشة هي التي دفعت المفكرين الأوائل مثل اليوم، إلى التأملات الفلسفية". وأخيراً ترى (لورانس فانين) هذا الدفاع عن الفلسفة من شأنه أن يبين أن التفلسف لا سن له، ويتطلب اقتناء ثقافة عامة وفلسفية، وفضول الفكر؛ لتنفتح جراء ذلك الحقول الممكنة للبحث لمن يسعى إلى استثمارها بكد واجتهاد، وتهتم الفلسفة للعلم دون أن تخضع له.