رحلت أختي وعشرة عمري، ورفيقة دربي وابنة عمتي، وحضن رواني بالحب والحنان أميرة الوفاء والبر الأميرة نوف بنت خالد بن عبدالله بن عبدالرحمن آل سعود، رحلت وكل ما زرعته بي لا يزال نضرا حيا وارفا، ما زلتُ أسمع صوتها الشجي المحمل بآيات الذكر الحكيم وهي تتلو القرآن في خشوع وإيمان وثقة، «إن الله مع الصابرين» فلم تجزع يوما، ولم تفقد الأمل بالله العلي القدير فكانت خير مثال للمؤمنة الصابرة المبتسمة المحتسبة حتى في ذروة الألم والعناء، لم تنطفئ ابتسامتها، كانت في أوج جمالها وشبابها وطيبة قلبها الحنون، حين ودعت الأرض ومن عليها، لم يمسح المرض نضارتها وإشراقة ابتسامتها. وفي هذه اللحظات المريرة تتدافع صور السعادة التي عشتها معها واكتملت بها وضمتنا معا، هي ووالدتي - رحمها الله -، وإخوتي فهد وأحمد - تغمدهما الله برحمته ومغفرته -، تتدافع الذكريات والصور وكل حلو يدفع المر ويمحوه ويبقى الأثر غصة في الحلق ترسل دمعي وأعجز عن مقاومة وقع الذكريات التي عبرناها معا. منذ أن تزوجت الحبيبة نوف أخي الحبيب فهد كانا معا وليفين يكملان بعضهما، حيث كبرا معا وعاشا معا حياة مشتركة في سن صغير وعمر متقارب، وكنت أنا في الرابعة من عمري، أراهما كأجمل اثنين، زوجين متحابين، وتعلمت منهما دروس الحياة، كانت نوف لي أختًا وأما والاثنين معا، ففي شعوري هي أختي وفي مواقفها معي هي أمي، فقد كانت لي موجهة وصانعة أفراح، كان حنانها الخصب ينسيني مرض والدتي وغيابها المتكرر إثر إصابتها بالفشل الكلوي، فمنذ أن كنت في السابعة من عمري كان قلبي ينفطر على والدتي، فكانت نوف بتوجيهاتها لي تسعى إلى سد الشاغر وتعويض المفقود، وحين بدأت أكبر كانت ترقبني عن كثب وتعلمني كيف أتصرف، كيف أهتم بأناقتي، وأهيئ نفسي، وحين اخترت بعد أن كبرت دراستي الجامعية عن حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، كانت تشجعني بحرارة وصدق محب حتى مناسبات تخرجي كانت تحضرها معي وتشعرني بفخرها واعتزازها بكل إنجاز أصل إليه. نوف خرجت من بيئة امتازت بالفروسية الأصيلة، جمع حب الخيل ومواصفاتها بين أبيها وأخي - رحمهما الله -، فكلاهما كانا يحبان الخيل، وكلاهما كانا رمزا للفروسية والإباء، وهكذا كانت نوف فيها من صفات الفروسية والإباء والشمم والوفاء والبر ما يشبه بيئة الفروسية التي خرجت منها بطلة حياة. كانت أختًا بمواصفات فارس شجاع أبيّ جميل الصفات والمعاني، هذا التلاحم والتشابه بينها وبين أخي - رحمه الله - جعلها تعاني كثيرا من فقده بعد وفاته، ومن حكمة الله أن أخي فهد توفاه الله في 25 يوليو 2001م، وهي رحلت عنا في 20 يوليو 2021م، نفس الشهر الفرق خمسة أيام فقط!!. في سنوات الفقد كانت تقاوم حزنا لم تنطفئ ناره في جوفها، وكنت أرى حزنها يأخذ منها شيئا ويعطيها أشياء، فقد أعطاها القوة في الصبر والرضا في المعاناة والمسؤولية في المواجهة، حيث ترك لها أخي أبناءه فكانت الأب والأم لهم ولي، فكانوا لي أخوة وليسوا أبناء أخ عظيم، وعاشت تعطينا جميعا مما أعطاها الله من الحنان والاحتواء والبر والرعاية والإغداق بالحب والوفاء، حتى كبر أبناؤها وصاروا قدوة بين الشباب، وتعلموا منها البر والوفاء لنا ولجدهم الملك سلمان - رعاه الله -، وصرنا نرى أخي فهد في أبنائه وكأنه موجود بيننا، نراه في لمحة من ابنه سلطان، أو طلة من ابنته سارة، أو مبادرة من ابنه أحمد، أو ضحكة من ابنته ريمه، أسأل الله جلت قدرته أن يسبغ عليهم وعليّ الصبر والثبات، وأن يمكننا جميعا من الاستمرار بما يرضيه تعالى ثم يرضيها. تركت في أبنائها أبناء أخي فهد وإخوتي البررة، تركت فيهم الشغف بالعمل الخيري وحب العطاء الإنساني، وجود النفس بلا مباهاة، وكرم الأخلاق بلا منة ولا تردد، هذه بصماتها اليوم ستبقى فيهم حية، وسيبقى فهد أخي في ملامح أبنائه وسلوكياتهم كأنه معنا لا يزال، ولعل أكثر ما يجر دمعي من قلبي جرا أن من أصبح له في حياتي مؤخرا أكبر منزلة لم يرَ نوف ولم يعرف من غابوا عن حياتي وكان لهم أبلغ الأثر في واقعي وفي وجداني، لم يرهم كي يعرفني فهم مرآتي التي تظهر فيها صورتي الحقيقية. لقد غابت عني نوف غيابين؛ غياب المرض وغياب الموت، وفي الغيابين كانت دائما معي وسأظل أذكرها ما حييت، وأذكر الصور والمواقف التي جمعتنا، وأسأل الله أن يقدرني على حمل تبعات الفقد والفراق، وأحمده تعالى أني سمعت منها عبارة ستظل ترن في أذني ما حييت، حين قالت: (يا بعد نوف) وهي تبارك لي بزواجي منذ شهرين. وأخيرا أعتذر لها قبل الجميع عن تلعثم كلماتي العاجزة عن وصف شعوري، فما أسجله في هذه اللحظات العفوية لا ينقل ما بداخلي كما هو، وليس كافيا عن التعبير بما أشعر به، وكل ما أطلبه وأرجوه هو الدعاء لهذه الراحلة الغالية الطيبة الوفية الحاضرة وهي - غائبة -، الدعاء لها بالرحمة والقبول، وأن يجمعها الله وقرة عينها أخي فهد بن سلمان وأبيها وأخيها سلمان بن خالد ووالدتي، فهم أحبابها الراحلين، فاجمع بينهم يا رحمن يا رحيم في عليين، وأسأل الله أن يجعل في موازين حسناتها مواقفها معي ويجزيها بعلو الدرجات، هي ووالدتي بما مر بهما من مرض وعناء، فكما جاء في الحديث الشريف: «المبطون شهيد»، فاللهم أنزلها ووالدتي منازل الشهداء والصديقين في الفردوس الأعلى من الجنة، واجمعني بهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولا عزاء لي إلا أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وهكذا كانت نوف دائما في صفوف المحسنين والمحتسبين. اللهم أكرم نزلها ووالدتي وإخواني أجمعين، وكن لنا يا كريم عونا في المصاب الأليم.