حين تقرأ رواية «العصيان» للإيطالي ألبرتو مورافيا، في صباك ودون أساس معرفي قوي ربما يأخذك إلى عالمه دون تردد، وهو عالم تجد فيه من الناحية الإبداعية شخصية فائقة الثراء السردي، من خلال كتابات تتمتع بأسلوب واقعي بارد ودقيق، وفي الوقت نفسه، مدعومة بوعي اجتماعي وثقافي عالٍ. تلك الواقعية تجسدت في جميع كتاباته ورواياته التي استكشفت العزلة والصدمات الاجتماعية مع التركيز بشكل شبه مهووس على النشاط الجنسي البشري، ولأنه كان ملحداً فقد كان لا يؤمن بالكثير غير أنه يجب على الكتّاب، إذا أرادوا تمثيل الواقع، أن يتخذوا موقفاً أخلاقياً، موقفاً سياسياً واجتماعياً وفلسفياً واضحاً. ذلك الوضوح الذي تكاثف في أعماله وانتهى بأن أعلن الفاتيكان أن رواياته وقصصه غير أخلاقية ووضعت في فهرس الكتب المحرمة. ولعل تبرير ذلك ما يقوله بنفسه في مذكراته: «لا أعرف ما إذا كنت أؤمن بالله. لم أفكر في الأمر بجدية أبداً»، ولكنه بعد ذلك السخط الكنسي أصبحت أعماله أكثر نفسية، وتمتع بتشريح أخلاق مجتمع الطبقة العليا وكذلك إحباط الإنسان المعاصر في مجتمع صناعي يحكمه المال والمادية. ذلك يتوافق إلى حد كبير مع ما ذهب إليه الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، بقوله «إن الخطر المحدق بالبشرية ليس خطر الفناء الذري، بقدر ما هو خطر الملل الحضاري في مجتمعات كل ما فيها موجه لإشباع رغبات الحس في أفرادها». مورافيا كان واقعياً أكثر من اللزوم، وقد تعاملت معظم أعماله مع الجفاف العاطفي والعزلة والإحباط الوجودي، وذلك اتجاه سردي حظي بإشادة النقاد فأسلوبه الصارخ غير مزخرف، كما أن تغلغله النفسي ومهارته في السرد وقدرته على خلق شخصيات أصيلة وحوار واقعي، لا يخرج عن سياق حالة إبداعية متفردة هي التي جعلته أكثر مؤلفي إيطاليا قراءة في هذا القرن، كما أنه لم يكن الكاتب الأكثر مبيعاً في بلده فحسب، بل كان أيضاً أفضل كتاب إيطاليا، دون إمكانية أن يجادل أحد في أنه احتل مرتبة عالية بين عمالقة الأدب الإيطالي في عصرنا الراهن. ميله الواقعي لدراسة وتشريح الفساد الأخلاقي، والتغوّل في موضوعات العزلة والاغتراب، جزء من طبيعته اللاذعة وشديدة الحساسية أيضاً، وهو اختصر تفسير ما هو عليه من شخصية وفكر: «حياتي، مثل حياة الجميع، فوضى، والخيط الوحيد المستمر هو الأدب››. فقد كان يرقب المجتمع، خاصة البرجوازي منه، وينظر إلى الداخل بكل اضطرابه وتقلباته. ولعل الخلاصة في فهم مورافيا فيما ذهب إليه في مذكراته حين يقول: «لفهم شخصيتي، يجب أن تضع في اعتبارك أنني كنت مريضاً في طفولتي، وبسبب ذلك كنت وحدي تماماً، حتى بلغت الثامنة عشرة من عمري. إلى المدرسة. لم يكن لدي أطفال آخرون للعب معهم. دخلت العزلة في روحي بعمق لدرجة أنني حتى اليوم أشعر بانفصال عميق عن الآخرين››، ذلك يجعله لا يعبأ بالفاتيكان وحرمانه، فقد استمر صاحب العصيان وكتب بلا توقف فقناعته أن «المثقف ليس سوى شاهد على عصره». مع كل ما أنجزه طوال حياته التي اتسمت بالواقعية، والذكاء الإبداعي، إذ رغم إسقاطاته أيام الفاشية الاستبدادية إلا أنه نجا من الرقابة وغلظتها، وربما كان لتواضعه أيضاً دور في ذلك، إلى جانب تلك الواقعية التي تمنحه المناعة الموضوعية وتجعله يمضي، وقد مضى. يقول مورافيا في مذكراته: «لكي تكون راضياً عن النجاح، يحتاج المرء إلى أن يكون مغروراً، ولست مغروراً بصدق››. ثم إنه يقول: «لقد كنت كاتباً، وهذا كل شيء... لقد أخذت الأدب على محمل الجد قبل كل شيء››. وفي كل أحواله فإنه رصيد أدبي عميق يحتاج القراءة المستمرة فأثره الإبداعي مهم بالقدر الذي يعيد اكتشاف كثير من مخبوء النفس البشرية، وإن كان له من فضل إنساني فهو لم يكن منافقاً وحسب. ألبرتو مورافيا د. عادل النيل