النقد الذي أحب أن أُشارك القراء به، وأدعوهم إلى تأمّل وجهه وتفتيش ثناياه نقدٌ عام للمذاهب، فلستُ أخصّ به مذهباً دون مذهب، ولا رجالاً دون رجال، وكيف أصنع ذلك وأجترئ عليه وهؤلاء وأولئك آبائي جميعاً؟، بل أروغ من ورائه (أطلب) أن أُظهر ما بدا لي من عيب، وأكشف ما ظهر لي من خلل.. ليس يملك الإنسان لو أراد التخلصَ من ماضيه، وأثره فيه، فالماضي بما حمله، رضيه المرء أو سخطه مرحلة من مراحل العمر، وحقبة من حقبه، وما في طاقة امرئ أن ينعتق من طفولته وشبابه في كهولته وهرمه، وأحسنُ السياسات وأجملها أن يعمد الإنسان إلى سالف أيامه، وخالي لياليه، فينتخب خيرها، ويعتصر أَلَقها، ويُحاكم خطأها، ويُقاضي خللها، ويعرف فضل الخير، ويحمد أثر غيره، فالخير زرع الثقة فيه، والخطأ كان السبب إليه، فلولا الأخطاء، والوقوف عليها، ما تُقْنا للصواب، واندفعنا في طلبه. وعلى المرء أن يعدل مع أسلافه، وما تركوه له، وينظر إليهم كما ينظر إلى نفسه، وما دام يُحسن الظن في تجربته، ويتقبّل بصدر رحب زلّاته، ويكره من غيره أن يُطيل النظر فيها، ويُكثر تفحّصها، ويعدّ الخطأ، إذا وقع منه، مَرقاة للصواب، ومجلبة له؛ فليكن للسلف الماضين من هذا الرأي النصيب الأوفى والحظّ الأسنى؛ فهم على ما وقعوا فيه بُناة الأسس العلميّة وعُمّارُ الكيانات الفكرية، ولو فقدنا ما تركوه، وضاع عنّا ما خلّفوه، لكنّا كمَنْ يقطع بيداءَ مجْهَلا (لا أعلام فيها يُهتدى بها) ويجتاز بلا دليلٍ صحراء قاحلة، والحال مع السلف الماضين، وما أسلموه لنا، أوجزه الشاعر الحماسيّ (أي: من شعراء الحماسة حماسة أبي تمام) حين قال: وكمْ قد رأينا من فروعٍ طويلةٍ .. تموتُ إذا لم تُحيِهنّ أُصولُ بل يذهب جمهور الناس، ويعتقد جمع كبير منهم؛ أنّ مَنْ ينتقد أسلافه، ويتعقّب عليهم ما تركوه، ويَلَجّ في ذلك ليله ونهاره؛ يُصيب نفسه، ويُدمي مقلته، ويستصغر الناس ذلك منه، فمن لا يعرف قدر آبائه، ولا يزن فيهم كلامه، ولا يتحاشى عيوبهم في حديثه، تكون حاله معهم كحال الحارث بن وَعْلةَ الجرميّ في قوله: قومي همُ قتلوا أُميمَ أخي .. فإذا رميتُ يُصيبني سهمي! إنّ من ينتقد أخطاء أسلافه، ويتحدث مثلي عمّا بدا منها له، يرمي بسهمه شخصه، فيُصيبه مرتين، مرة حين عاد بالنقد إلى ما غُذي به، ونشأ عظمه عليه، ومرة حين يُخطئ في ظنه، ويتعثر في نقده، وليس الناقد بجاهلٍ هذا، ولا غافلٍ عنه، ولكنه أدرك معنى، وهُدي إلى قولٍ، فأحبّ المشاركة به، والإشارة إليه، وما هو بغريب على القائل أن يخطئ، وعلى المتكلم أن يزلّ، ولعل مما يشفع له، ويُخفف إن أخطأ من لومه، أنه قَصَد الخير، وأراده بكلامه، ولو كان الكلام مباحا لمن ضَمِن الإصابة، وأيقن بها؛ لما تحدّث أحد، ولا تفوّه بشيء فرد. المذاهب ظاهرة من ظواهر المجتمع الإسلامي، بدأت بمذاهب العقيدة ونحلها، وامتدت بعد ذلك إلى الفقه واللغة، فصار عندنا في الأول (الفقه) مذاهب كثيرة، اشتهر منها خمسة، واختفى أو انزوى غيرها، وعُرف في الثاني (اللغة) مذهبان شهيران، كلاهما منسوب إلى البلد الذي نشأ أصحابه فيه، وما يلوم أحدٌ مذهبه، ولا ينتقد رجاله، ولا يعجب من اتّباع الناس له، لكنه حين يُذكر المذهب الثاني، وتُطرى سيرة رجاله، يشرع في نقده، ويُقدّم أسباب تركه، ويذهب مذاهب غريبة في التنفير منه، فهو لا يرى لغيره، من إخوانه المسلمين، ما يرى لنفسه، بل يُخوّل لسانه أن ينطق بما يصلح لهم، ويمنح عقله حق التفكير عنهم، ثم لا يفطن لهذا ولا ذاك من نفسه، ويمضي في حياته غافلا عمّا كان حريّا به أن يفطن له، ويلتفت إليه، ولو أنّه فطن لما قام به، ووعى ما ذهب إليه؛ ما لام قطّ ناقدا، ولا توجّس من لائم أبدا. والنقد الذي أحب أن أُشارك القراء به، وأدعوهم إلى تأمّل وجهه، وتفتيش ثناياه، نقدٌ عام للمذاهب، فلستُ أخصّ به مذهبا دون مذهب، ولا رجالا دون رجال، وكيف أصنع ذلك، وأجترئ عليه، وهؤلاء وأولئك آبائي جميعا، بل أروغ من ورائه (أطلب) أن أُظهر ما بدا لي من عيب، وأكشف ما ظهر لي من خلل. في الزمان الأول ظهر فنّ الطبقات، فوجدنا طبقات ابن سعد في رجال الإسلام كلهم، لم يُفرّق بين أحد منهم، ولم يقتصر على أهل بلد وحدهم، ثم جاءتنا طبقات فحول الشعراء لابن سَلّام الجمحي، فجمع الشعراء لنا، جاهليهم وإسلاميهم، وفرّق بينهم بحسب رأيه، ورأي أسلافه وشيوخه من أهل اللغة والأدب، بجودة الشعر وإتقانه وتعدد أغراضه، ولم يكن في هذين النوعين من الطبقات إيثار لجماعة، وتحزب لفئة، ولا اقتصار عليهما، ولحق بهذه الطبقات طبقاتٌ أُخُر بعد قرنين من الزمان وأكثر، ولعل من أوائلها طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (ت: 526ه)، فنشد أصحابها أن يقصروها على رجال المذهب وأئمته، فخسر بهذا أتباع كل مذهب معرفة أئمة المذاهب الأخرى، وفاتهم من الفقه، والنباهة فيه، ما كان لو حصل لهم؛ لحصّلوا الخير، وبرّوا الجميع، ونالوا الوعي وسعة الأفق.