ما فتئ الإنسان على مرّ العصور من ممارسته ومحاولته التوصل إلى حالة الاتزان بين مدخراته ومستهلكاته، لضمان الديمومة والعيش دون عَوز، ولنا في قصة سيدنا يوسف عليه السلام الدليل والأثر على حُسن التدبر والإدارة ومنهجه في استغلال سنوات الخصب والوفرة لتجنب تحديات السنين العجاف، كما جاء الإسلام معززاً لهذا التوجه وداعياً له حيث يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا»، كيف لا وديننا الحنيف دين اعتدال ووسطية وانضباط في كل شؤونه ومناحيه، ومنه يستمد ولاة أمرنا وحكومتنا الرشيدة النهج وحُسن التدبر واستنباط التعاليم وبما يحقق النفع العام والاستدامة والنمو لمملكتنا الحبيبة. إن الوصول لمرحلة القوامة في الإنفاق أو ما اصطلح عليه حديثاً ب»رفع كفاءة الإنفاق» كان محطّ اهتمام ولاة أمرنا، وجاءت رؤية 2030 بكافة مضامينها وشموليتها مؤطرة لهذا النهج، وانبثق عن هذه الرؤية (مركز تحقيق كفاءة الإنفاق) الذي سيكون على عاتقه وضع السياسات والخطط ومراجعة التشريعات والأنظمة واللوائح المالية التي تنتهجها الدوائر الحكومية في تسيير أعمالها وشؤونها وبحيث لا يكون الاهتمام منصبّاً على سلامة إجراءات الصرف فقط وإنما بجدوى الصرف ومدى مساهمته في تحقيق أهداف المؤسسات ضمن مؤشرات قياس فاعلة وواضحة. إن ما شهدته المملكة في السنوات الأخيرة من نموٍ متسارع في كثير من القطاعات وما رافق ذلك من مشروعات ضخمة وتنويع في مصادر الدخل لتعظيم الإيرادات وبخاصة غير النفطية منها، يحتاج منا جميعاً - أفراداً ومؤسسات - إلى همّة وطنية في سبيل الارتقاء برفع كفاءة الإنفاق وتطبيقه كنهجٍ مستدام ضمن خطط استراتيجية واضحة المعالم والرؤى وما ينتج عنها من هيكلة إدارية شاملة ومبنية على تلك الخطط ومتزامنة مع إجراءات رقابية ضامنة للأداء، الأمر الذي يستوجب بذل المزيد من الجهود الرامية للحدّ من هدر المال العام وذلك من خلال إعادة الترتيب وتنمية الموارد البشرية تأهيلاً وتدريباً وفق منهجية محكمة تتساوى فيها الفرص ويكافأ فيها المميز ووصولاً للاستغلال الأمثل للموارد وتوفير بيئة عمل مناسبة لجميع الجهات وزيادة الخدمات بأقل تكلفة. إن كفاءة الإنفاق تعتمد بشكل رئيس على كفاءة الإدارة، وهما صنوان لا يفترقان غير أن الأولى نتيجة الأخرى، لذا فإن العمل على رفع كفاءة الإدارة متطلب أساسي، حيث إن الازدهار الاقتصادي الذي نعيشه لا يعني بأي حال إنفاقاً أكثر بل إنفاق بعقلانية واختيار أمثل للنفقة الرشيده وفق قاعدة «تحقيق أكبر قدر من المنافع»، ولقد بات جليّاً ثمرة الجهود الحكومية في السنوات الأخيرة وما رافقها من مرونة واستغلال للتقنيات والتطبيقات الإلكترونية وإيقافٍ للمشروعات غير ذات الجدوى اقتصادياً، وتوجيه الإنفاق بما يدعم الأهداف التنموية وإعادة الجدولة للمشروعات التنموية، وما حققه من مردود مادي يعد بمليارات الريالات. كل هذه النتائج والبشائر تدفعنا للمضي قدماً لتحقيق المزيد من الإنجازات وجعل الاقتصاد السعودي اقتصاداً مستداماً قائماً على ميزانية متوازنة وبما يضمن مستقبلاً مشرقاً ورفعة لمملكتنا الحبيبة وجعلها أنموذجاً يحتذى بين دول العالم أجمع. *المشرف العام على إدارة المسؤولية المجتمعية بجامعة الجوف