لا يبدو اسم ستندال، أو ماري هنري بيل، بذات الحضور الكثيف في الرواية الفرنسية عبر تاريخها مقارنة بكثيرين سبقوه ولحقوه، ولربما كان بلزاك مشهورا بما تتواضع معه شهرة هذا الرائد الذي أرسى أسس وقواعد الأدب الروائي الواقعي، حيث إنه وللمفارقة يعتبره بعض النقّاد الخطوة التي مهدت لظهور بلزاك. في الصورة الكلية لا شك في أن ستندال رائد الرواية الواقعية والطبيعية في فرنسا، وأحد الوجوه البارزة في الفكر الأوروبي مع بداية أزمة الضمير في الحضارة الغربية التي بلغت ذروتها بين سقوط نابليون وحتى الحرب العالمية الأولى، وهي فترة كان جدير بها ظهور هذه النخبة لتتناول مجريات الواقع، ولذلك مما يؤثر عن بلزاك قوله إن "الروائي مؤرخ للحياة اليومية" ما يفسر واقعية أعمالهم. كان ستندال عبقريا، ولكن يبدو أن بلزاك هو الوحيد الذي توصل إلى ذلك، أو بمعنى آخر الشخص الوحيد الذي لم يصبه العمى ليرى ميزات هذا البارع، ومما يقال إنهما التقيا مرة واحدة في عرض الشارع بباريس، وسلّم عليه بلزاك وطلب أن يجلس معه في المقهى، كان ستندال يكبره بستة عشر عاما، ما يعني أنه يمكن أن يكون أستاذه في فن الكتابة والحياة. في روايته التي تعتبر إحدى روائع الأدب العالمي وهي "دير بارما"، دير مسيحي في مدينة بارما بشمال إيطاليا، وفيه حصلت بعض أحداث الرواية، تدفق بلزاك الشاب حينها في تمجيد تلك الرواية والاحتفاء بها وذلك في مقالة رائعة نشرها في مجلة باريسية. جانب آخر من جوانب هذا الفرنسي العبقري يبرز فيما كتبه جان دورميسون "كانت لستندال ثلاثة مثل عليا: الحيوية، المتعة، الحقيقة، لقد كتب بشكل فريد من نوعه، لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد، وقد فشل كثيرا في الحياة والركض اللاهث وراء السعادة، لكنه نجح في مجال الأدب بشكل يتجاوز كل التوقعات". ذلك الفشل في الحياة ربما بدأ منذ صغره، فقد كان طفلا غير سعيد توفيت والدته وعانى من افتقار والده المحامي للخيال، واعتنت به خالته وكاهن يسوعي، ولكنه كان يكره كلاهما، وظل يميل طوال حياته إلى التأكيد على الجو الكئيب والقمعي لمنزله بعد وفاة والدته. تشارك مع إينشتاين في ذلك الاعتداد الفائق بالذات حين قال "رغم أنه صدر أكثر من خمسين مجلدا تشرح نظرية النسبية إلا أنني متأكد أنه في كل هذا العالم لم يفهمها سوى خمسين شخصا"، وكذلك ستندال كان يرى أن عددا قليلا من الأشخاص فهموا كتاباته حقا. في بعض جوانب شخصية ستندال انعزال وانغلاق، فهو تبدو عليه سمات رجل من قرنٍ ماضٍ، كما أنه رجل متناقض في ذلك الوقت، كل حياته كان يسيطر عليها خياله، كان على دراية بتلاشي الذاكرة وغموضها، ومراوغتها، ومن هنا جاء أسلوبه الاستطرادي الشهير، المتعرج الهزلي الذي أخذه من ستيرن. كانت أشهر رواياته "الأحمر والأسود"، رغم أنها رواية حب بالدرجة الأولى، إلا أنها تبدو وكأنها بيان شيوعي. وقد طور ستندال الفكرة المركزية القائلة بأن كل فترة تاريخية كانت رومانسية في وقتها الخاص، وأن الرومانسية هي جانب حيوي لكل فترة ثقافية، وتلك الرواية التي تعتبر اليوم تحفة فنية، اضطرت إلى الانتظار 50 عاما وفترة طويلة بعد وفاة مؤلفها لتأخذ مكانتها كرواية عالمية مهمة. ويمثل "الأسود" الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، بينما "الأحمر" هو رمز يتسع ليشير إلى الثورة والجمهورية وإمبراطورية نابليون ومفاهيم أكثر تعميما عن الشجاعة والجرأة، وهذه الشفرة اللونية تعكس ما عليه ستندال من روح متمردة ومنطلقة جعلته يتعامل مع الواقع بصورة تختزن وضوحا شديدا عكس مجايله شاتوبريان، الذي تنكر للمثال الثوري وعاد إلى أحضان الكنيسة بعد أن انهار نابليون وانتهت مرحلة المغامرة الثورية التي لا مثيل لها في التاريخ. وعلى العكس منه لم يتراجع ستندال عن حبه للثورة الفرنسية ونابليون بونابرت فجاءت أعماله مزيجا من الواقعية والخيال الذي ينحاز إلى ما يراه لا ما يحلم به أو يفكر به، وظل على ذلك الحال إلى أن توفي، وفي المقبرة غضب بروسبر ميريميه لأنه لم يتم التحدث بأي كلمات عند القبر في تلك "الجنازة الوثنية". ماري هنري بيل