وجود القدوات أمر حتمي في حياة الإنسان لا يستطيع الفكاك منه بالكلية ولا العيش من دونه، كما يصعب عليه التخلص من بصماته في مستقبل الأمر، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة دوام سيطرته عليه في شتى مناحي الحياة بقدر ما يعني وجوب تنبه المربين إلى هذا الموضوع المهم.. ما نحن بصدد الحديث عنه. فمن المفارقات العجيبة تقليد كثير من البشر للتصرفات التي يمقتونها فقط لأنها صادرة من قدوة لهم في الحياة، بغض النظر عن مدى حبهم أو تعلقهم بتلك الشخصية «القدوة» من عدمه، فلا عجب إن رأيت ابناً يقلد أباه في سلوكيات كانت مثار غضبه ومقته في يوم من الأيام وقل مثل ذلك في جانب المعلم وغيرهما من القدوات.. وهنا مكمن الخطورة؛ حيث إننا نقلد - شئنا أم أبينا - من قد غُرِس في وجداننا ووعينا الذاتي بأنه «قدوة» بغض النظر عن مدى رضانا عن سلوكياته ومسالكه.. ومن المفارقات في ذات السياق أن الرسالة غير المباشرة أكبر وقعاً وأقوى أثراً على المتعلم من الرسائل المباشرة؛ فالابن يقتدي بأبيه وكذا التلميذ بمعلمه في أفعاله أكثر بكثير مما يقتدي به في أقواله مهما كثر ترديدها وعلا الصوت بذلك؛ فإن وجّهت طالباً نحو الحلم والأناة وكنت عجولاً سريع الغضب فلن يقتدي بقولك بل بما تفعل وتمارس، وقل مثل ذلك فيمن يوجه إلى اجتناب الكذب وهو واقع فيه من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه. لقد وجهنا الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل إلى الاقتداء بأعظم قدوة إنسانية مرت على البشرية جمعاء، قال تعالى:«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا»، فكم نحن بحاجة إلى قراءة تأملية لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم واستخلاص المبادئ والقيم التربوية منها، وربط طلابنا بها وتوجيههم إليها من خلال المواقف التعليمية التي نلتقي بهم فيها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. كما يجب أن لا ننسى أننا - كمربين - أصحاب رسالة قيمية نبيلة في الحياة يجب علينا استثمار كل موقف متاح لتحقيقها، وأن لا يكون حالنا كحال من تاه عن تلكم الرسالة إلى فضاءات أخرى من المصالح الدنيوية الزائلة أو الخصومات الزائفة والتي لا طائل من ورائها ولا دافع لها إلا محاولة إثبات للذات في غير مكانه. إن قيمة العطاء يجب أن تكون القيمة الحاكمة والمهيمنة على مصفوفة القيم لدى كل مربٍ؛ فالقدوات الإيجابيون لا تخلو مواقفهم التعليمية من غرس لقيمة أخلاقية، أو تعزيز لانتماء وطني، أو توجيه فكري وسطيّ يتسلح به طلابهم عند مواجهة ما يعرض عليهم من أفكار متطرفة ذات اليمن وذات الشمال. لا شك أن رسالة التربية والتعليم رسالة يرافقها مجموعة من المصاعب والمشاق والعقبات إلا أن تأمل نواتج ذلك المجهود يكفي للشعور بالسعادة التي يطمح إليها كل ساع مما سعى، فما بالكم بتمثلها حقيقة على أرض الوقع؛ ذلكم الشعور الذي ينتاب كل مربٍ وهو يرى ثمرة عطائه يانعة أمامه بالنجاحات التي يحققها من قد أُوكل إليه أمانة تربيتهم وتعليمهم وأعظم من ذلك استشعاره للكرم الإلهي. فالإثبات الحقيقي للذات سيتحقق - ولاشك - عندما تتلقى شكراً وتقديراً من طالب كنت قد سعيت في يوم من الأيام لتهذيب أخلاقه وإرشاده لما يصلح دينه ودنياه، وأعظم من ذلك أن يشكر المولى الكريم لك ذلك الصنيع ويودعه في رصيد حسناتك الباقي يوم تفنى كل الأرصدة. ولعل التساؤل الذي قد يتبادر إلى ذهن قارئ هذه الأسطر هو عن الأداة التي تمكنه من غرس وتنمية القيم الإيجابية لدى طلابه، ولعل الإجابة عن ذلك أن تتحقق إذا ما تأملنا مقولة أنس بن مالك رضي الله عنه: «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بالمدينة وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه ما قال لي فيها أف قط وما قال لي لم فعلت هذا أو ألا فعلت هذا «.(سنن أبي داود) فما هو إذاً الأسلوب التربوي الذي انتهجه النبي صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة مؤثرة في ذهن هذا الطفل والمراهق فيما بعد إن لم تكن التربية بالحب فماذا عساها أن تكون؟