منذ فجر التاريخ وظهور محوري الخير والشر، يحاول الإنسان جاهدا تنمية جوانب الخير وتفعيلها، ومحاربة جوانب الشر والقضاء عليها؛ وهكذا بدأ الصراع بين جانب الخير والشر منذ القديم؛ فقد تعددت أساليب الشر، والاعتداء على الآخر، وسلب قوته ومدخراته، وكانت كل هذه الافعال المشينة تتم بشكل فردي؛ في حين نبذت تلك المجتمعات أولئك الأشرار وأقصتهم؛ ولعل أول ظهور مؤرخ لسياسة مجتمعية في معاقبة المخالفين وردعهم وقفنا عليه إنما هو في مسلة حمورابي والتي تعود إلى 1800ق.م أي ما يقارب الأربعة آلاف عام من تاريخنا المعاصر، وكانت هذه اللائحة القانونية نواة لضرب يد المفسدين والحد من شرورهم. غير أن ظهور عصابات وجماعات تحمل نفس التفكير الإجرامي، جعل الشعوب أمام معضلة كبرى ومسؤولية عظمى في مواجهتهم، ورصد جميع طرقهم في الاحتيال والالتفاف على القوانين، لسدِّ الثغرات أمامهم أولا بأول، كما جاءت الأديان السماوية كافة مناهضة لهذا السلوك غير السوي، والذي يتعارض كلياً مع الغاية العظمى من وجود الإنسان كخليفة لله على وجه البسيطة، حيث زخرت الآيات القرآنية وفي كثير من مواضعها على التحذير من مغبة الوقوع في إثم الفساد، والإضرار بالناس، ومصالحهم، أو بالمال العام؛ وجاءت غايات التنمية في المنظور الإسلامي تتجه نحو تحقيق العبادة لله وحده، بتعمير الأرض بمنهجه، وتحقيق الحياة الطيبة للبشر في الدنيا، من خلال حفظ المقاصد الخمسة - الدين والنفس والعقل والنسل والمال - كما شنَّ الإسلام حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال والاستعباد، وتطفيف الميزان، والغش، والاحتكار، والسرقة، والرشوة، والربا، والاغتصاب؛ ومن ثَمَّ التعدي على المال العام وغير ذلك؛ واستمر في محاربة الفساد بكل أشكاله وألوانه، حيث سنَّ التشريعات التي تمنع كل مظاهر الفساد المالي، فحرم السرقة. والباحث في التاريخ الإنساني وحضاراته، يجد أهمية نظام الحوكمة الرشيدة في تنظيم حياة الإنسان وسلوكه، ونشأة الحضارات الإنسانية وازدهارها؛ وقد تضمَّن التاريخ البشري شواهد كثيرة على أن الإمبراطوريات التي سادت العالم كان أساسها الحكم الرشيد، وترسيخ قيم العدالة والشفافية والمساءلة؛ وأن الإمبراطوريات التي سقطت كان بسبب تراجع دور الحوكمة، وبروز ظاهرة الفساد والظلم فيها. ومع مطلع القرن العشرين، قرن ثورة الاتصالات، والتقنيات الرقمية التي حوَّلت العالم إلى قرية صغيرة، ظهرت منظومات وإمبراطوريات اقتصادية عالمية، نتيجة زيادة في حجم التبادل التجاري، بسبب تطور وسائل التبادل والنقل والشحن؛ وصار العالم أمام أخطبوط عالمي، وشبكات منظمة تمارس الفساد بشتى أصنافه، مما أوجب على المجتمع الدولي بذل جهود مشتركة لإيجاد صيغة عالمية، وتعاون دولي، من شأنه مكافحة الفساد بجميع أصنافه وألوانه؛ ومن هنا جاءت نشأة منظمة الشفافية الدولية في العام 1993م كمؤسسة مجتمع مدني دولية وغير حكومية، تهدف لمحاربة الفساد، وجمع البيانات الخاصة بذلك وتوثيقها تحت شعار (خلق تغيير نحو عالم من دون فساد)؛ وبدأت بعد تأسيسها بعامين بإصدار تقارير سنوية حول مؤشرات الفساد عالميا، وبشكل محايد؛ ونجحتْ في اكتساب المصداقية بوضع مؤشراتها وتقاريرها أمام مؤسسات دولية أكثر نفوذاً، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما استطاعت إبراز الفساد كعائق رئيس أمام التنمية. لم تكن المملكة بمعزل عن العالم، فقد تأثرت سلباً بآثار الفساد، شأنها في ذلك شأن بقية الدول، حيث حلّت المملكة في المرتبة (58) عالمياً من أصل (180) دولة في مؤشر مدركات الفساد، بحسب منظمة الشفافية الدولية لعام 2018، والمرتبة (11) بين دول مجموعة العشرين الاقتصادية. ومن هنا عزمت القيادة الرشيدة في بلادنا الغالية على محاربة الفساد؛ وفي هذا السياق جاءت تصريحات متعددة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - في مناسبات مختلفة؛ كقوله: "ليس من الممكن أن نبقى ضمن مجموعة العشرين في حين تنمو بلادنا بهذا المستوى من الفساد"؛ وقوله: "المملكة لا تقبل فسادا على أحد ولا ترضاه لأحد ولا تعطي أيا كان حصانة في قضايا فساد"؛ كما جدَّد سموُّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - ذات العزم والحزم في أكثر من تصريح، وأكَّد على ضرورة محاسبة كلِّ من تورط في قضايا فساد، كائنا من كان؛ وأن المملكة تطمح لأن تكون في مقدمة الدول في مكافحة الفساد؛ وقد تجلَّى هذا العزم الرشيد، والحزم الفريد في خطوات عملية كثيرة، بدأتْ من صدور الأمر السامي الكريم بإنشاء هيئة خاصة بمكافحة الفساد؛ والتي ظلَّتْ تعمل بكل حزم وإصرار، دون تفريق بين فاسد وآخر، فحقَّقت نتائج إيجابية كثيرة؛ من أبرزها استرداد ما يقارب ال(100) مليون دولار إلى الخزينة العامة في وقت قياسي قصير؛ كلّ ذلك تحقَّق بفضل الله ثم بمتابعة حثيثة وإشراف مباشر من قبل سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله -. وهكذا انتهجت المملكة في السنوات الأخيرة الإصلاح مسيرة حياة، ونهجاً حكومياً لا تراجع عنه، حيث بدأ الإصلاح في معالجة الاختلالات في أجهزة الدولة وتداخل صلاحياتها؛ وكان الدمج والقوننة وإلغاء التشتت عنواناً عريضاً لهذا الإصلاح؛ إذ حول ديوان المراقبة العامة إلى "الديوان العام للمحاسبة" ليكون الجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة في المملكة، كما تم كذلك دمج "هيئة الرقابة والتحقيق" و"المباحث الإدارية" في بوتقة واحدة، وتحت مظلة "هيئة الرقابة ومكافحة الفساد"؛ وذلك لتوحيد الجهود الرقابية وتنظيمها من جهة، ومنحها القوة والصلاحية في الرقابة من جهة أخرى؛ وقد كان من آثار هذا القرار الحكيم: إبراز قيم النزاهة، وتفعيل متطلبات مكافحة الفساد بكافة أشكاله، وتنسيق جهود القطاعين العام والخاص في تخطيط ومراقبة برامج مكافحة الفساد وتقويمها. * أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة المشارك بجامعة الجوف