القيادات الممتازة تستطيع أن تُوجد مدارس ممتازة حتى في أسوأ الظروف، بشرط أن تؤمن القيادة ومعلموها بسمو رسالتهم وقدرتهم على التغيير والتغلب على الظروف مهما كانت صعبة، وكما يقال: لا توجد أعمال فاشلة، بل قيادات وإدارات فاشلة.. حين وصل المعلم "ريشارد إسبارزا" إلى مدرسة جرانجر الثانوية في ياكيما فالي في الحي الفقير من واشنطن، أخبره زملاؤه أن الحالة ميؤوس منها، فالمجتمع الجاهل لا يمكن أن يكون لديه مدارس ممتازة، لا أحد من أولياء الأمور يلبي دعوات المدرسة لحضور الأنشطة المختلفة، ونسبة التسرب من التعليم عالية، والعنف والجريمة والمخدرات تستوطن الأحياء الفقيرة وتتأثر بها المدرسة، وحين تولى إسبارزا قيادة المدرسة هاله ما رأى من تدني مستوى تحصيل الطلبة، وجد أن 20 % من الطلبة فقط يستطيعون القراءة حسب معايير الولاية، و11 % فقط يستطيعون الكتابة، أما الحساب فلم يجد سوى 4 % فقط يجيدونه حسب معايير الولاية. ولأن هذا المعلم نشأ في بيت فقير وواجه صعوبات كثيرة قبل نجاحه بفضل جهود أحد معلميه، فقد أصبح صاحب رسالة تؤمن أنه لا يوجد مدارس سيئة بسبب البيت أو الحي، لكنها تكون سيئة حين لا يؤمن قائد المدرسة ومعلموها برسالة التعليم، ولأن المهمة صعبة، بل مستحيلة في نظر بعض المعلمين، فقد قرر أن يبدأ بالمعلمين حتى يكونوا خير عون له على رسالته، ذكّرهم بسمو رسالتهم وأخبرهم أنه سيكون في المقدمة لكل مشروع أو برنامج عمل، وهكذا قال للطلبة، ثم بدأ العمل بإخراجهم من الفصول لإزالة كل الكتابات والرموز التي على جدران المدرسة وما حولها، والتي ترمز لعصابات قد يكون من بينها طلبة، حمل علبة الطلاء وسار أمام المعلمين والطلبة، واظب على هذا العمل واستبدل بها رسومات جميلة للطلبة. ولأن دعم الوالدين هو الأساس قرر دعوتهم، ثم قال: من لا يأتي سنذهب إلى بيته ونتحدث معه ونعطيه الأمل، نريده أن يكون جزءاً من المدرسة، فلا تعليم متميز إلا بمشاركة الأسرة، ولا شيء سيكسر دائرة الفقر سوى التعليم المتميز، وحين عارض بعض المعلمين فكرة زيارة أولياء الأمور في بيوتهم قال لهم: أنتم أحرار في عدم الزيارة، لكن من الأفضل أن يبحث من لا يريد الزيارة عن مدرسة أخرى غير هذه المدرسة، وكان لديه ما يكفي من الصلاحيات للتعامل مع من يقف عثرة في سبيل إصلاح المدرسة، وغادر بعض المعلمين مدرسته، بعض المعلمين من الأصول اليابانية كانوا يجوبون الحارات على دراجاتهم الهوائية لزيارة البيوت حتى وقت متأخر من النهار، وبعد عدة سنوات أثمرت الجهود وصارت نسبة حضور أولياء الأمور إلى المدرسة 100 % لحضور الاجتماعات والأنشطة المدرسية التي يديرها الطلبة، كان يردد دائماً: أريد الطلبة قادة، أريدهم أن يقودوا أنفسهم وزملاءهم أولاً، ثم يكونوا قادة في بيوتهم ومجتمعهم ثانياً. حين تولى إسبارزا إدارة المدرسة كانت نسبة التخرج من المدرسة 30 % فقط، وبعد خمس سنوات أصبحت 90 %، ليس هذا فقط، لكن نسبة تحسن القراءة والكتابة والحساب تعدت كلها 60 %. القيادات الممتازة تستطيع أن توجد مدارس ممتازة حتى في أسوأ الظروف، بشرط أن تؤمن القيادة ومعلموها بسمو رسالتهم وقدرتهم على التغيير والتغلب على الظروف مهما كانت صعبة، وكما يقال: لا توجد أعمال فاشلة، بل قيادات وإدارات فاشلة، نجاح التعليم يتطلب منا الكثير من العمل ومن أهمه الخطوات الآتية: * أولاً: وضع معايير مدروسة بعناية لاختيار قادة المدارس من بين أفضل المعلمين، والاستثمار في تأهيلهم، ومنها أخذهم لدورات قصيرة لمدارس الدول الناجحة في تعليمها، وقبل ذلك وضع برنامج يستمر على مدى العام لاختيار أفضل المعلمين من بين المتقدمين لهذه المهنة السامية بدلاً من اختيار الآلاف منهم دفعة واحدة، ولي تجربة حين كنت قائداً لكلية الملك فيصل الجوية في اختيار الضباط الذين سينقلون من القواعد الجوية إلى مختلف الأجنحة في الكلية، وهي البحث والتقصي عن سجل الضابط المراد نقله إلى الكلية، ثم السؤال عنه في مكان عمله، ثم مقابلته مني شخصياً قبل اتخاذ قرار نقله، فلا شيء يؤثر على التعليم والتدريب كالقائد والمعلم، كنا نسأل عنه كما يسأل الأب عن شخص يطلب يد ابنته. * ثانياً: تمكين قادة المدارس من أداء مهمتهم، وإعطائهم المحفزات والصلاحيات اللازمة للتغلب على جميع المصاعب التي تعترضهم، وإجراء الدراسات والاستبانات لمعرفة العوائق التي تحول دون أداء المهمة، وما هي أسباب عزوف المتميزين من المعلمين عن قبول إدارة المدرسة. علينا أن نغير فكرة أنه لا يمكن إصلاح التعليم إلا بإصلاح الأسرة والمجتمع، بل على العكس، إصلاح المدرسة هو الذي سيصلح المجتمع وينقل الأسرة من الفقر والجهل والمرض إلى الغنى والصحة والسعادة، كل الأباء والأمهات يتمنون النجاح لأولادهم، لكنهم لا يعرفون الطريق إلى ذلك، وعلى المدارس أن تسهم في تعليمهم وتثقيفهم وجعلهم جزءاً من العملية التعليمية البالغة الأهمية.