الكبار يأتون بالقرارات الكبرى.. ذلكم ما أصف به قرار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - بإنشاء مَجْمَع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وهذا يبين إدراكاً عميقاً بمكانة اللغة العربية وأهميتها، وما تحمله من حضارة وثقافة، ودين وعلم، ويظهر مدى حبه لها واهتمامه بأن تنال حقها في زمن التحديات الكبرى. يأتي هذا القرار التاريخي في مرحلة أحوج ما تكون اللغة العربية إلى مثل هذا القرار، فثمة تحديات حضارية وثقافية وتقنية وعلمية تواجه اللغة العربية، وتهدد إرث أمة كاملة، وأكبر تحدٍّ من وجهة نظري هو "حب أهل اللغة العربية للغتهم"، فاللغة العربية أم حنون، تفتقد بر أولادها وحبهم. فتحبيب اللغة العربية إلى أطفالها وشبابها بما يناسب هذا العصر، لهو التحدي الأكبر والأهم أمام مؤسساتنا العلمية والتعليمية. ونأمل أن يتحول هذا إلى برامج عملية تسهم في تعلق أهل اللغة العربية بلغتهم، واعتزاز بها، وتقدير، وافتخار بالتحدث بها. واللغة ليست مجرد وسيلة للحديث أو الكتابة، ولكنها الصورة الذهنية والوجه الحضاري لأي أمة، وتمثل البوابة الحيوية التي تعكس مكانة الناطقين بها، وتسوق تلك المكانة دولياً، فإنما الأمم لغاتها. التحدي الآخر يتمثل في المحتوى العربي الرقمي وغير الرقمي، بالرغم من جهود مؤسسات عديدة في خدمة المحتوى العربي، إلا أنه مازال ضعيفاً وهشاً موازنة بغيره من اللغات، ولا يتناسب مع حضارة عريقة، وتراث حافل بالعلم والازدهار والثقافة. ونحن نأمل أن يسهم مجمع الملك سلمان في إثراء المحتوى العربي، وجمع شتات الأعمال المؤسسية ضمن مخطط لغوي واسع، يكون بالتنسيق مع بقية المؤسسات داخل المملكة وخارجها. ومن أبرز التحديات المعاصرة، تحدي التقنية والذكاء الاصطناعي، فحياة اللغات اليوم مرهونة بمدى تطوير إمكاناتها التقنية، وحوسبة اللغة، ومعالجتها بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، ونمذجتها، وتحويل تلك المعالجات إلى برامج تطبيقية تسهم في خدمة اللغة، وخدمة الناطقين بها، والمتعلمين لها، والمترجمين، وغيرهم. ومن التحديات التي نأمل أن ينجزها المجمع: تعريب العلوم، وتوطينها في البيئة العربية، والانتقال من التبعية اللغوية للغات أخرى إلى الاستقلالية اللغوية، وهذا يتطلب جهوداً جبارة من العمل والتنسيق بين الجهات المعنية، وتحويل الأمنيات إلى واقع ملموس، وهي وإن كانت جهوداً جبارة فإن مجمع الملك سلمان لأهل لمثل هذه التحديات، ونأمل بأن يسهم في تحول التعليم ليس على مستوى المملكة العربية السعودية، بل على مستوى العالم العربي. ولا ضير فمنشئه هو خادم الحرمين الشريفين، الذي جعل كثيراً من الطموحات والأماني واقعاً وإنجازاً، ويصدق فيه قول المتنبي: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام د. عادل عبد القادر المكينزي