على الرغم من أهمية تعدد اللغات، وعِظَمِ دور الترجمة في توسيع الآفاق والثقافة؛ إلا أنّ الانبهار باللغات الأجنبية والانغماس فيها يؤديان إلى ضعفِ وتهميش اللغة الأم وإلى تسيّد اللغة الأجنبية بطبيعة الحال. ينشأ هذا الداء على ألسنة الأفراد المتأثرين بالثقافات الأجنبية، ثم تتفشّى العدوى حتى تعُمّ المجتمعَ بأسره، ولا أجد اسمًا لهذا المشهد أكثر ملاءمةً من مصلح (الاستعمار اللغوي) الذي عدّه علماءٌ كُثر أولَ وأهمَّ خطوات الاستعمار، وليست الخطوة العسكرية إلا آخرها. إنّ للكلمة الواحدة في أيةِ لغة تُراثًا وأبعادًا وظِلالًا مُخزّنة في لا وعي القارئ أو السامع، وليست مجرد اختلاف رسمٍ وصوتٍ بين لغةٍ وأخرى، مثلًا لا يمكن أن يكون للكلمة الإنجليزية (Disgusting) نفس وقعِ كلمة (اشمئزاز) على نفس العربيّ وسمعه؛ لِما لصوت الزاء مع الشين وتوسّط الهمزة بينهما من ماضٍ عريق في ذهنه. تحمل الكلمات من لغة إلى أخرى نفس مبادئ وأطباع متحدثيها، في الإنجليزية مثلًا يمكنك أن تلمس الحرية والانفتاح غير المشروط، تمامًا مثل متحدثيها المنفتحين على أغلب الشعوب والثقافات، وفي الألمانية تشعر بالحِدّة والصّرامة المنعكسة من ملامح أهلها ومخارج حروفها، وفي اليابانية تلاحظ أنّ غرابة ترتيبها وشدة تهذيبها مشابهة لسلوك اليابانيين إلى حدٍ كبير، أما في العربية فيمكننا أن نتناول الموضوع بشيءٍ من التفصيل. إنّ اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي ظلت محافظةً على أصولها وجذورها منذ قرون، إذ يمكن للعربي المعاصر أن يفهم شعرًا قديمًا كُتب قبل مئات السنوات، على عكس أغلب اللغات الأخرى التي تولد كل عصرٍ بشكل جديد تمامًا لدرجة أنّ متحدثيها اليوم لا يمكن أن يفهموا مخطوطاتها التي كُتبتْ قبل ألف سنة، وهذه الأصالة العربية تشبه طباع العربي في تمسكه بمبادئه وعاداته. يتجلّى تشابه المتحدث بلغته الأم في الشعر عادةً، فتجد أنّ الشعر العربي يطربك إيقاعه وتلامسك صوره خِلافًا للشعر الأجنبي، حتى إنّ بعض المترجمين اضطرّوا إلى نقل مفردة صيف الإنجليزية (Summer) في السونيتة 18 لوليام شكسبير في وصفه لمحبوبته إلى مفردة (الربيع) بالعربية؛ لكي يلامس التشبيه الجمالي ذائقة المتلقي العربي أكثر، تأمل مثلًا الشعور الذي يولّده بيت مالك بن الريب في نفسك: «أجبتُ الهوى لمّا دعاني بزفرةٍ... تقنّعتُ منها أن أُلام ردائيا»... مفردة «الهوى» وما تحمله من حنين، و»زفرة» وما تحمله من ثقل، والكمّ الهائل من العزة التي تُلمس في تَقنّعِ مالكٍ رداءَه؛ أنفةً من أن يقال ضعُف من الهوى! تشعر بذلك تجاه الكلمات لا لمجرد معانيها، بل لأنّ لكل كلمة ماضياً في مداركنا منذ نشأتْ واستُخدمتْ من شعراء جاهليين قبل ما يقارب 1500 عام ثم من أدباء ووعّاظ وحتى يومنا هذا. إنّ للكلمة العربية تاريخًا وسيرةً يمران بذهنك لحظة قراءتها فتفعل بك ما يفعله عطرٌ يحمل في شذراته أعمق المعاني والذكريات. إذاً اللغةُ الأم جزءٌ لا يتجزأ من كيانِ الإنسان، وهذا ما تعنيه كلمة (هُويّة) المشتقة من الضمير (هو)، ولهذا نصفُ اللغة بأنها هُويّة الأمة التي تحمل في كنفها تراثها وثقافتها، فإن نُسيت اللغة؛ نُسيت كل تلك القرون من المواقف والأفعال والمشاعر والأقوال، ولهذا لا تسقط الأمة إلا عندما تسقط لغتها، ولا يستعمر الأجنبيُ الأرضَ إلا عندما تستعمرها اللغة الأجنبية أولًا، فاللغة هي الوعاء الذي يحمل الدين والثقافة والمبادئ.