مع فيضانِ نهر الثقافة ومناخِ السياسة المضطرب وانحيازِ وسائل الإعلام وتشويهِ المعلومات ورياحِ نظريات العلم الحديث الإعصارية وثورةِ الشاشات والتقنيات البركانية؛ تتولّدُ العديد من الأسئلة المترابطة: لماذا نقرأ الأدب؟ وما دوره وقيمته؟. مِن المفيد أن نفكر بدور الأدب في سياق المشاكل الثقافية؛ لأنّه كان يقف دائمًا في وسطها ويصبح ردةَ فعلٍ لهذا العالم الفوضوي المنحدر، تنطبق أبيات ووردزوورث الرثائية على جميع سنواتنا، فكلماته رؤيةٌ مستبصرةٌ للماضي والحاضر والمستقبل: «أفرطَ العالمُ معنا سَلَفا فاشترينا وشرينا.. سَرَفا واحتوينا ما رأينا حولنا ورمينا قلبنا.. وا أسَفا» تخلّينا اليوم عن قلوبنا، وقطعنا صلتنا بالإله والطبيعة والآخرين، ولكنّ الأدب يملك الدواء، فأيّ نوع من الأدب هو؟ إنه أدب الكتب العظيمة، قال سامويل جونسون في مقدمة شكسبير: «الاختبار الوحيد للعظمة الأدبية هو طول المدة واستمرار التقدير»، إضافةً إلى هذا يُعتبر الكتاب عظيمًا لو تضمن ثلاثة معايير: أولًا العالمية؛ فالكتاب العظيم يخاطب الناس عبر سنوات مما يؤثر ويُلهم ويغيّر قراءً بعيدين جدًا عن الزمان والمكان الذي كُتب فيه، ثانيًا تجده يملك فكرةً مركزيةً واحدةً وطابعًا واحدًا يعالج بهما مسائل ذات أهمية دائمة، ثالثًا يمتاز بلغةٍ حصيفةٍ ورصينة. الكتاب العظيم هو ما يُكتب بلغةٍ جميلةٍ تثري الفكر وتهذّب الروح. بعدما تحدثنا عن أيّ أنواعِ الأدب تستحق أن تُقرأ؛ فلنعرّج على لماذا ينبغي أن نقرأ الأدب. إنّ في قراءة الأدب دُرْبةٌ للخيال ومتعةٌ تصاحب عوالم القصص ولقاء الشخصيات وعيش حيواتهم وتجربة أفراحهم وأتراحهم، بمعنىً أدق؛ الخيال النشِط يساعدنا على إدراك الحقائق واتخاذ القرارات الصائبة والتعامل مع تعقيدات الحياة بطرقٍ إبداعية، وتمكّننا قراءته كذلك من استعمال المنطق والتفكير جيدًا. تنقلنا قراءة الأدب خارج سياقنا الحالي إلى أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة، وتسمح لنا بالتواصل مع شخصياتٍ غابرةٍ تنوّر جهلنا، قال مارك توين مرةً: «السفرُ يقتل التحيّز والتعصّب وضِيْق الأفق، إنّ الأفكار الخارجية الصحيّة الجيدة من الأشخاص والأشياء لا يمكن أن تُطلب ببلادةٍ في كنفِ حياةٍ راكدةٍ وفي زاويةٍ واحدةٍ من الأرض طول حياة المرء»، ولأنّ أغلبنا لا يمكنه قيادة باخرةٍ على طولِ نهر المسيسيبي أو السفرِ إلى أجزاءٍ مختلفة من العالم كما كان يفعل توين؛ يقدم لنا الأدب خدمةً جليلةً بكونه مرشدًا ووسيلة مواصلات لاكتشافاتنا. تسمح لنا قراءة الأدب من رؤية العالم من خلال أعين الآخرين، فتغدو أعيننا مرنةً في فهمِ وجهاتِ النظر الأخرى، فتُرْكَنُ وجهات النظرِ الشخصية جانبًا لنرى الحياة عبر عينيّ امرئ آخر من عمرٍ وطبقةٍ وعرقٍ مختلفين تمامًا، قراءة الأدب تغذّي وتطور قوة النظرة العاطفية. لعبت الأعمال الأدبية العظيمة دورًا أساسيًا في تشكيل المجتمعات، على سبيل المثال، بدأت ملحمة جلجامش بالسرد البدائي للبطل وهو يقوم ببحثٍ ملحميّ والذي صار أسلوبًا شائعًا ومؤثرًا في الأدب حول العالم آنذاك. من النصوص الشهيرة أيضًا الأوديسا لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي، وهاملت لشكسبير، ودون كيخوته لثيربانتس التي سُجلتْ بكونها أول رواية في الغرب تنشئ نوعًا أدبيًا صار منذ ذلك الحين الشكل السائد للأدب في الحقبة الحديثة. بعدها بفترة جاءتْ أحزان ويرثر لغوته وكانت مؤثرة - ليس تأثيرًا إيجابيًا بالضرورة - بشكل عميق، وبعد القصائد الغنائية لووردزوورث وكوليردج بدأت الحقبة الرومانسية في الأدب الإنجليزي، كما شجّعتْ رواية كوخ العم توم لهيريت ستو الأمةَ المنقسمة على بدءِ حربٍ مدنيةٍ ضد العبودية، وفي بداية القرن العشرين كشفت رواية الأدغال لأبتون سنكلير الرعبَ في صناعة تعليب اللحوم الأمريكية وكانت سببًا لكثيرٍ من الإصلاحات لسوء إنتاجية الطعام. للكتب قوةٌ عظيمة في تشكيل الثقافة والتاريخ! تعزّز قراءة الأدب من التأمل والتفكير وتطور استعمالنا للغة والمفردات. يتطلب التعامل مع مثل هذه النصوص التفكير المتأنّي والواعي لفهم وحفظ أكبر عدد من الأفكار. كان معدل الكلمات العادي في جملةٍ في القرن السادس عشر يتراوح بين 65 و70 كلمة، ولكن ليس مفاجئًا أنّ المعدل انخفض في الحقبة الحديثة حتى بلغ 15 كلمة في الجملة، ومثله معدل الحروف العادي في الكلمة، فلوحظ أنّ استعمال الكلمات الطويلة والبليغة قد انخفض بشكلٍ كبير. إنّ التعرّض المستمر للنحو والأسلوب الرفيع لا يطور قدراتنا في التفكير وحسب، بل مهارات حديثنا وكتابتنا أيضًا. أخيرًا تساعدنا قراءة الأدب على اكتناهِ ذواتنا، أو على فهم الطبيعة الإنسانيّة؛ لأن مادة الأدب هي الإنسان، في صفحاتها نتعرف على خَلْقنا وخُلُقنا، على ضمائرنا وأرواحنا، نرى الإنسان في أقصى عظمته وأدنى وضاعته، نراه بين كل فكرةٍ وحدثٍ وشعورٍ واعتقاد. بعبارةٍ أخرى، يحمل الأدب مرآةً أمام الطبيعة الإنسانية ويكشف أغوارها الداخلية وتعقيداتها ويعكس فضائلها ورذائلها، وأكثر من ذلك يحمل مرآةً أمام العصر الثقافي ويضيء شكله وروحه. رواية الأدغال رواية كوخ العم توم ثيربانتس كوليردج شكسبير