"كان جيمي رجلاً جميل الهيئة في التاسعة والأربعين من عمره وسيماً ومُعافى جسدياً، وذا شعر كثيف أشيب. كان مرحاً ولطيفاً وودوداً. قال "أهلاً دكتور! صباح جميل! هل أجلس على هذا الكرسي هنا؟ "كان شخصاً أنيساً مستعداً للحديث والإجابة على الأسئلة؛ وقع الاختيار عليه للعمل في الأسطول البحري وبعقله الهندسي البارع كان ملائماً للاتصال اللاسلكي والإلكترونيات، حياة حافلة وشيّقة، ولكن لسبب ما، توقفت ذكرياته هناك في العام 1945". فجوة سحيقة مرعبة وفراغ عظيم في غياب الذاكرة، رجل ليس لديه أمس ولا يملك القدرة على الإحساس بالزمن أو الاستمرارية. إنها (متلازمة كورساكوف) كما وردت في كتاب - أوليفر ساكس - الرجل الذي حسب زوجته قبعة، إنها تدمير عميق ودائم لمحض الذاكرة تُعرف باسم فقد الذاكرة الشامل العابر "نساوة السابق". تقول ميري ورنوك "التفكير في الأشياء لغيابها هو عملية التذكر الذي يبعث الشعور باللحظة"، ذاكرتنا سلاحنا ووسيلتنا لمواجهة الفناء، تلك المعجزة المدهشة التى تمحو ما تشاء وتثبت ماتشاء، بتناغم إبداعي مع نسيج الذاكرة من حُلم وذكرى وتكرار وإدراك وتداع عاطفي لتجرد الإنسان وتغرقه في الحيرة وتُفقده الاهتمام بالأشياء، وتتركه كساعة فوكنر توقفت عن إعادة مجريات الأحداث للزمن، ذاكرة معزولة عالقة بلحظة لا معنى لها تتغير باستمرار. فقد تحول جيمي إلى كائن "هيومي" تجسيداً لفلسفة الوهمية.. اختزال مخيف لرجل مجرد منفصل غير متماسك. ويكتب لويس بونويل "أن انتظر فقط فقد الذاكرة الأخيرة، ذاك الذي يمكنه أن يمحو حياة كاملة "محو شظوياً تفتتياً زمنياً يمنع الذاكرة من الامتداد ارتجاعياً لعقود، ذلك الفقد المأساوي العميق المعصور بالعاطفة المؤلم للنفس. فيباغتنا ذلك التساؤل السريري أين روح الذاكرة الضائعة لجيمي؟! أي نوع من الحياة؟ وأي نوع من العوالم لرجل فقد ماضيه وصوابه؟ يوقّد لوريا قلب ساكس ببريق الأمل قائلاً "ليس الرجل مؤلفاً من الذاكرة وحدها فلديه شعور، وإرادة، وأحاسيس، وأخلاق.. وهنا فقط.. يمكنك أن تؤثر فيه وترى تغييراً عظيماً". فكان جيمي الضائع في الزمن المكاني، منظماً للغاية في الزمن المتعمّد - حالة شفاء واهية -، تحجّر الماضي وتوقفت اللحظة. هل بوسعنا صنع كبسولة لعبور الزمن؟! وبالعودة للذاكرة يقول بونويل "يجب أن تبدأ في فقد ذاكرتك ولو بشكل تدريجي لتدرك أن الذاكرة هي التى تؤلف حياتنا. ذاكرتنا تماسكنا ومنطقنا وشعورنا وبدونها، نحن لا شيء "شذوذ من الفقد تجذز لقتل حياة كاملة. وفي كل لقاء بينهما تضيع ذاكرته في حالة من عدم اليقين أذابها النسيان "دكتور أنا لم التقِ بك قبل الآن أبداً. لا بد أنك قرأت عني في جدول بياناتي" ويغيب المشهد الرمادي في الذاكرة كطريد سماوي سرمدي.