رحلة طويلة ومهمة جليلة تلك التي تُطوع المستحيل فيها ممكناً لكل أمنية جاءت من بعيد، شيّبتها السنين وهي تنتظر لحظة أن تزور بيت الله. أكثر من 20 مليون نفس يطوفون في حلقة مقدسة بين المشاعر والمناسك كل عام، تختلف لغاتهم، وجنسياتهم، وتتفق إنسانيتهم في رداء أبيض يجمعهم. يأتون محملين بآلامهم، آمالهم وحاجاتهم، مقبلين على تجربة العمر التي تقودها المملكة بتميز وإتقان، تستثمر فيها كل الموارد وتذلل لها كل الخدمات كي يحظى الزائر بالضيافة التي تليق بضيف من ضيوف الرحمن. لنتوقف لحظة هنا، هل تأملت يوماً كيف تدار هذه الحشود كل عام؟ من أول السطر، حُقّ للمملكة وإنسانها أن نقف احترامًا لهم نظير العقود الطويلة في خدمة حجيج بيت الله وزائره، والاحترافية التي تشمل كل تفصيل صغير وجزئي في تجربة الزائر. ليس من السهل إطلاقاً أن تدير فئات من الناس لا تعرف بيئاتهم ولا تتوقع تصرفاتهم، بل يأتونك بمختلف طبقاتهم ومستوياتهم التعليمية وأحياناً بأمراض مزمنة أو معدية. إدارة الحشود فن وعلم تراكمت معارفه على مر الأزمنة وتشرّبه إنسان المملكة منذ الصغر وتوارثته الأجيال بالفطرة حتى صار جزءاً من هوية العامل في خدمة الحجيج والمعتمرين. ليس ذلك وحسب، بل وأصبح معرفة حصينة نواجه بها أعتى الأمراض والأوبئة العالمية، كما يحدث اليوم مع وباء كورونا الجديد. هو قراءة نفسية واجتماعية تتأرجح بتوازن بين العلم والخبرة وتوظيف التقنية والمعرفة في حفظ الأنفس والسعي نحو الكمال للتجربة. قل لي ماذا "تقدم" أقل لك من أنت! إن سألتني ماذا يمكن للمملكة أن تُصدّر للعالم؟ سأقول لك فن إدارة الحشود. نعم، حان الوقت أن ننظر لهذه الخبرات الأصيلة بمنظور مستدام، أن نؤسس لمنابر معرفية تقولب التجربة كتباً ومصادراً تعليمية مثرية، ونبني على الجهود المبذولة مسبقاً في معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة. أن نحول من تلك الممارسات والخبرات مناهج تدرس في المنظومات التعليمية المحلية والدولية من خلال تخصصات جامعية ودراسات عليا. ونحفز على الابتكار والإبداع وإنشاء الشركات والمؤسسات الوطنية الناشئة والتي تساهم في التطوير والتحسين المستمرين لهذا العلم. وأخيراً، أن نكون شريكاً معرفياً للعالم، وقبلة أولى تلجأ لها كبرى المنظمات والشركات والمسابقات العالمية بالدعم والاستشارة. نعم، حان الوقت للمملكة أن تُصدّر فن إدارة الحشود للعالم. هاشم خالد داغستاني