لم يكن الأمر الملكي الكريم الصادر في يونيو 2017م بتعيين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد حدثاً عادياً، بل كان موعد مع فصل تاريخي جديد، ابتدأ بمواجهة أول أعداء التنمية وأكبر عوائق التطور "الفساد"، حيث تشكلت لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد بتتبع المتهمين في قضايا الفساد في نوفمبر 2017م، وتم استدعاء قرابة ال 381 شخصاً، بعضهم للإدلاء بشهاداتهم، وجرى استكمال دراسة كافة ملفات المتهمين ومواجهتهم بما نسب إليهم، لتُعلَن نتائج التحقيقات في يناير 2019م. نجحت اللجنة في استعادة ما يزيد على 400 مليار ريال (100 مليار دولار) من الأموال التي استحوذ عليها المدانون بقضايا الفساد، متمثلة في عدة أصول من عقارات وشركات وأوراق مالية ونقد وغير ذلك، بعد أنّ أنجزت المهام المنوطة بها. لن ينجو أي فاسد مر عام على إنهاء أعمال اللجنة، لكن مطاردة الفاسدين لا تنتهي، فكما تعهد قائد الحملة ضد الفساد أنّه "لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد أيًّا كان؛ سواء وزيرًا أو أميرًا، أيًّا كان"، مشدداً على البدء في ذلك من أعلى الهرم: "إن لم تكن مكافحة الفساد من على رأس السلطة، فمعناه أنك ليس عندك مكافحة فساد"، مؤكّداً على أنّ الفساد لا يسقط بالتقادم. دفع هذا الإعلان من اتسخت أيديهم بسرقة المال العام لمحاولة الهرب خارج المملكة أو إيجاد مخارج تمنعهم من المساءلة، أحد هؤلاء: الهارب سعد الجبري، المعفي من منصبه في سبتمبر 2015م، والذي تسلل بعد معرفته بافتضاح أمر تربحه من المال العام للدولة، خلال إشرافه على صندوق مكافحة الإرهاب الذي أنشأه الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله -. حملات فاشلة وبعد أن استقر الجبري في كندا، حاول توظيف وسائل إعلامية عدة وحسابات في منصات مواقع التواصل الاجتماعي لتجميل هروبه، وتحوير قضية الفساد المالي على أنها قضية سياسية، إلاّ أنّ تقريراً لصحيفة "وول ستريت جونال" الأميركية فضح تزعم الجبري عصابة فساد، ضمت أقارب وأصدقاء وزملاء، خلال فترة عمله بوزارة بوزارة الداخلية، والتي امتدت لأكثر من 15 عاماً، تمكن وشركاؤه خلالها في إساءة صرف ما يقارب 42 مليار ريال (11 مليار دولار)، إلى جانب شراء عقارات ثمينة في أميركا وتركياوكندا، بالإضافة لتحميل الدولة مزيداً من الرسوم في صفقات مع شركات غربية. واعتبرت «وول ستريت جورنال» أن القضية تثير تساؤلات عن "المحسوبية والصفقات التجارية والإثراء الشخصي المزعوم باسم مكافحة الإرهاب"، حيث راجعت وثائق تكشف تكسب الجبري وأعوانه من ميزانية الصندوق المخصص للإنفاق الحكومي لمكافحة الإرهاب، إذ يعتبر الجبري "ثاني أكثر شخصية نافذة في وزارة الداخلية، حين كان يتولاها الأمير محمد بن نايف». شركة "تحكم" واستعرض التقرير عمليات الفساد التي تمت من وراء الصندوق الذي أشرف عليه "الجبري"؛ ليحقق الثراء من ورائه، فبحسب ما أوردته الصحيفة الأميركية، فقد جاءت الأرباح من شركات مثل شركة "تحكم" التقنية التي تم تسجيلها في العام 2008م؛ إذ موَّلت وزارة الداخلية شركة تحكم التقنية، ولكنها كانت مملوكة في بعض الأحيان من قِبل شقيق الجبري وابن أخيه واثنين من زملائه المقربين، كما تُظهر سجلات الشركات السعودية. واشترت شركة "تحكم" التقنية البرمجيات والأجهزة من الشركات الأميركية، بما في ذلك IBM وOracle وCisco Systems Inc وVMware Inc، وأعادت بيعها للحكومة بعد مضاعفة قيمتها. وفي العام 2013 استثمرت شركة "تحكم" التقنية 50 مليون دولار قدمتها الحكومة في شركة Digital Signal Corp الأميركية، التي وصفها الجبري بأن لديها تكنولوجيا واعدة للعثور على الإرهابيين في الحشود، الأمر الذي أكّده الرئيس التنفيذي السابق للشركة ديفيد غوتادورو. وكان مما اكتشفه المحققون أن وزارة الداخلية دفعت لشركة "تحكم" أكثر من 22 مليون دولار للحصول على 2000 هاتف أرضي وهاتف محمول آمن، تكلفتها الحقيقية لا تتجاوز 500 دولار فقط، تم التخلص منها في وقت لاحق؛ لأنها لم تعمل بشكل جيد. كما اكتشف المحققون أن مساعدي الجبري قد ابتكروا أوراقًا تفيد بأن الشركة مدينة لهم بقروض قيمتها 30 مليون دولار. شركة "سكب" ومن بين عمليات الفساد التي تورط فيها الجبري؛ صرف جزء كبير من الأموال المخصصة للوزارة ل"شركة سكب السعودية القابضة"، تلقت أكثر من 26 مليار ريال سعودي (6.9 مليارات دولار) في الفترة من 2008 إلى 2014م، بحسب الحسابات المصرفية ووثائق التحويل. وكانت الوزارة ترسل بانتظام عشرات الملايين من الدولارات إلى حساب شركة سكب في البنك السعودي البريطاني التابع لشركة إتش إس بي سي، وبعدها تقوم شركة "سكب" بتحويل جزء كبير من النقد إلى حسابها في مصرف إتش إس بي سي الخاص في جنيف، ويتم إرسال بعض هذه الأموال إلى حسابات بأسماء مساعدي الجبري. تحويلات شهرية وتضيف الصحيفة بأنه غالبًا ما كان أكبر تحويل شهري إلى شركة مسجَّلة في جزر فيرجن البريطانية، تسمى Dreams International Advisory Services Ltd، يمتلكها بالكامل الجبري، كما تظهر الوثائق المصرفية. وفي 3 إبريل 2017، على سبيل المثال، دفعت شركة سكب 28،289،316 دولارًا لشركة Dreams International؛ و14،955،983 دولارًا لحليف الجبري عبدالله الحمد، و2.716.026 دولاراً إلى ماجد المزيني، ابن أخت الجبري، كما تظهر الوثائق المصرفية، ولا يمكن معرفة أين انتهى المطاف بهذه الأموال، أو كيف تم استخدامها. شقق وعقارات وتُظهر سجلات الدولة وإيصالات الإيداع الخاصة بالشركات أنه في العام 2013 اشترت الشركات التابعة لسعد الجبري والدكتور خالد الجبري شقة بنتهاوس في بوسطن بمبلغ 3.5 ملايين دولار، وأربع وحدات أخرى في المبنى نفسه مقابل ما بين 670 ألف دولار وما يزيد بقليل على مليون دولار. ووفقًا لسجلات الدولة أيضًا، فقد اشترت شركة أسسها الجبري وابنه، ويديرها الأخير، شقة بقيمة 4.3 ملايين دولار في فندق ماندارين أورينتال في بوسطن في العام 2017. وفي هذا العام أنفقت الشركة 13.75 مليون دولار أخرى على الشقق في فندق فور سيزونز ببوسطن. ووفقًا لأقاربه، فإن الجبري يمتلك أيضًا منازل في تورونتو حيث يقيم حاليًا، وفي تركيا كذلك. عمليات سرية وفند التقرير ما يتحجج المقربون من الجبري بأن تلك الأموال كانت تُستخدم لعمليات سرية لمكافحة الإرهاب، حيث إنّ مسؤولاً حكوميًّا رفض تلك الذرائع، قائلاً: "إنه ليس من المنطقي الدفع مقابل العمليات السرية من خلال حسابات يملكها الجبري أو أسرته أو العاملون معه"، ولم يكن الكثير من العمل الذي قامت به شركة "تحكم" التقنية سريًّا أيضًا؛ فقد تم إعلان بعض مشروعاتها التي تستخدم فيها تكنولوجيا شركات غربية عبر بيان صحفي.