هذا الكتاب ليس سرداً لسيرة ذاتية، بل توثيقاً لفترة مهمة من مسيرة وطن، ورصداً دقيقاً لما مرّ به التعليم من تغييرات متلاحقة، وما أسداه هذا الوطن العظيم من أيادٍ بيضاء لأبنائه، حيث أتاح لهم التعلم في أرقى جامعات العالم، وصرف عليهم بسخاء من غير منة من أحد.. "لم نكن نعرف الأحذية في طفولتنا، وكنا نقضي اليوم كله في المزرعة أو الطرقات، أو في الذهاب إلى الكتّاب أو المدرسة، حفاة غير عابئين بما تقع عليه أرجلنا من حجر أو شوك لأن بواطن أرجلنا صارت من الكثافة والصلادة إلى حد تحولت عنده إلى أحذية طبيعية لا يؤثر فيها حجر ولا شوك". ما سبق أسطر من كتاب يحمل نفس عنوان المقال، كتبه الدكتور حمزة المزيني بكل صراحة وصدق. "واستقرت بها النوى" ليس قصة حياة كاتبها فقط، لكنه قصة جيل بأكمله يكاد يختفي ويسلم الأمانة لمن بعده، جيل محظوظ كتب الله له أن يعيش حياة جيلين مختلفين، عاش وتربى على يد آباء وأمهات عرفوا معنى المعاناة والحاجة، والصحة والمرض، والخوف والأمن، ثم عاش في زمن الرخاء والفرص المتعددة. أقرأ في صفحات الكتاب وكأنني أقرأ بعضاً من حياتي، خصوصاً صفحاته المتعلقة باليتم وحياة القرية ومجتمعها المترابط، والزراعة وعنائها ومخاطرها، والمدرسة وتواضع إمكاناتها وقسوة معلميها، والصحوة وما أحدثت من تغييرات على مستوى الأسرة والمجتمع. وللمؤلف ذاكرة قوية في حفظ أسماء معلميه وزملائه، ذكر محاسنهم وترحم على من مات منهم، وذكر كل من أهدى إليه جميلاً، ومن كان سبباً في نجاحه مثل سائق "القلابي" خلف، الذي تكفل بإيصاله وأخاه إلى المدرسة مع حمولة سيارته من الرمل، ومدير المدرسة المتوسطة الشجاع الذي اتخذ قراره في الحال وأدخله الفصل وكانت نقطة التحول في حياته بعد أن رفض مدير المدرسة الصناعية إعطاءه الشهادة الابتدائية على أمل أن يواصل دراسته معهم. وأهم ما ذكره المؤلف أهمية القراءة في حياته وكيف أنها كانت سبباً في نجاحه واستقامته وسعة أفقه، وأرى أنها السبب الرئيس في غزارة إنتاجه من الكتب والمقالات والرسائل، وفي ما ترجمه من كتب ومقالات لها علاقة بتخصصه اللغوي "اللسانيات" وخاصة للأستاذ (نعوم تشومسكي) و(ستيفن بنكر)، كما راجع الكثير من المقالات المترجمة والكتب ونقدها وبين عيوبها ووضعها في كتاب أسماه (مراجعات لسانية)، أما كتبه التي ألفها فكثيرة وبعضها حصيلة مقالاته في جريدة الوطن، ومنها ما له علاقة بالتعليم وتطويره، وبالأهلة وضرورة الاعتماد على المراصد الفلكية بدل العين المجردة والتي أشار الكاتب إلى أنها معرضة للخطأ، وكم مرة شهدوا برؤية الهلال رغم أنه غاب قبل الشمس ومن المستحيل رؤيته. وأما أكثر المعارك التي أوصلته إلى المحاكم فمع أحد زملاء المهنة، لكن ولي العهد في ذلك الوقت الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله - أنصفه وجعل المرجع في أي خلاف فكري في وزارة الإعلام والثقافة، وأصدر مجلس الوزراء أمراً بذلك للمحاكم. ولم تقتصر فوائد القراءة بالنسبة للمؤلف على التأليف والترجمة، بل تعداهما إلى متابعة السرقات العلمية وخصوصاً في الترجمة، فلم يكن يقتنع بما يقرأ من ترجمات ورأي الآخرين عنها، بل يبحث ويستقصي ويزور المكتبات في القاهرة وفي العواصم الأخرى للبحث عن الأساس وإيضاح الحقيقة، وهذا هو ما يميز عمل أستاذ الجامعة الذي تكون له مصداقية في البحث والدراسة. أما أهم الفوائد للقراءة فكانت تحصينه من الإنجراف إلى الغلو والتطرف أو الانتساب إلى الإخوان المسلمين الذين نشطوا في التعليم العام والجامعات منذ العام 1964 ووصولهم إلى المملكة بأعداد كبيرة من مصر والشام وتمركزهم في التعليم، ومن ذلك التاريخ انطلقت الصحوة، لكنه ظل صامداً مستقلاً بفكره ومحللاً لكل ما يقرأ أو يسمع، ويعود ذلك لتنوع قراءاته باللغتين العربية والإنجليزية. وقد أشاد المؤلف كثيراً بجريدة الوطن وما كان يطرح بها من قضايا لها علاقة بالتعليم والمرأة، وبصحيفة "الرياض" وما كان يكتب بها من آراء وأفكار ومناقشات، وفي ملحق "ثقافة اليوم" الذي كان يشرف على تحريره الأديب سعد الحميدين، حيث كان منبراً للكتّاب على مستوى الوطن العربي، يناقش فيه الكثير من القضايا الثقافية والنقدية والخلافية. أشاد الكاتب بجامعته، جامعة الملك سعود وبزملائه الأوائل ورؤسائه ومنهم مدير الجامعة منصور التركي وما يتمتع به من حب ومرح وشجاعة، ولكن بعد تقاعده تألم كثيراً من نظام التعاقد الذي لا ينصف المميزين بخبراتهم وتجاربهم، ويجردهم من كل حقوق الأساتذة في إبداء الرأي أو حضور المجالس العلمية والتصويت. هذا الكتاب ليس سرداً لسيرة ذاتية، بل توثيقاً لفترة مهمة من مسيرة وطن، ورصداً دقيقاً لما مرّ به التعليم من تغييرات متلاحقة، وما أسداه هذا الوطن العظيم من أيادٍ بيضاء لأبنائه، حيث أتاح لهم التعلم في أرقى جامعات العالم، وصرف عليهم بسخاء من غير منّة من أحد.