نثير في هذه المقالة إشكالية النقلة من وضع فكري سائد قائم إلى وضع جديد ترنو إليه المجتمعات في سياق التطور الثقافي والحضاري والعلمي.. أي التطور الإنساني وفي سياق التطور الفلسفي الذي يعبّر غالباً عن عصره وزمانه. «فالفلسفة تأتي دوماً متأخرة كطائر المنيرفا»، أو «إن الفلسفة هي «عصرها ملخصا في الفكر» على حدّ تعبير هيغل (فيلسوف ألماني). ونعني بالوضع الفكري السائد المراجع النظرية التي توجه حياة الناس واقعياً في النظر والعمل. وإذا رمنا توضيح ذلك أكثر يمكن أن نصنّفها إلى دائرتين: أولاً دائرة الحياة اليومية أو المعيش الذي يُكره الإنسان على نمط معيّن من العيش وهو إكراه يوجّه الرأي السائد الخاضع غالباً للبداهات الخادعة، والأحكام المسبقة، والمتداول من الأفكار والقيم التي تتصف بالتكرار والمعاودة، والتي نسميها بالعادات والأعراف والتقاليد.. ولهذا السبب نجد الحياة اليومية للشعوب والمجتمعات متشابهة تعيش داخل عُلب ضيّقة ومعايير لا يمكن الخروج عنها، لأن الخروج عنها يسبب الحرج والخجل وأزمة الضمير وربما المحاكمة والمحاسبة. الإنسان في هذا السياق مبرمج خاضع لنسق البرنامج بحكم التربية والمؤسسات التعليمية والثقافية والقيمية والدينية التي ترعى هذه البرمجة ولا تسمح بمغادرتها لتُحكم القبضة عليها واستعمالها لتحقيق أغراضها وغاياتها. إن المؤسسات الثقافية والتعليمية والدينية التي تحكم الواقع المعيش تمثّل الأيديولوجيا أي المنظومة الفكرية التي يتعصّب لها الواقع ولا يستطيع أن يرى سواها، بل إنه يرى سواها وهماً، وضلالاً يجب مقاومته. ثانياً دائرة العلم ومؤسساته التي توجّه فكر النخب الثقافية في المجتمع والتي تعتقد في صدق العلم وحقائقه وتستعمله في بناء خطاب أيديولوجي يحتكر ملكية الحقيقة ويقدّمها للشعوب والمجتمعات على أنها البديل الوحيد الذي يخرجهم من التخلف الثقافي والحضاري، وتعتبر أن تاريخ البشرية ليس إلا تاريخ الأوهام الميثولوجية واللاهوتية والميتافيزيقية.. أي ثقافة الشعوب المتوحشة والبربرية (على حد تعبير أنصار الأنتروبولوجيا التطورية). وأن بلوغ ثقافة العلم هو الذي يمكّن الشعوب من بلوغ المدنية والحضارة الحقيقية. إن هذه الأيديولوجيا العلمويّة (المتعصبة للعلم) التطورية تنفي كلّ قول سوى العلم وترى في الأقوال الفلسفية والدينية أوهاماً يجب على البشرية أن تتخلّص منها إذا رامت فعلاً تجاوز تخلفها وبناء قوتها. فالعلم ليس وهماً. الوهم الحقيقي يكمن في اعتقادنا بأن الحقيقة موجودة خارج العلم. كما يرى ذلك فرويد. هذه الأيديولوجيا العلمويّة هي الأيديولوجيا الشائعة عند أغلب المثقفين الجدد الذين أرادوا الخروج من أيديولوجيات شعوبهم وأنظمتها الفكرية والعقدية. بهذين النمطين من أنظمة الفكر تُبنى العقول والأجساد، وتُوجّه الأذهان والعقول، وتُدار الصراعات الفكرية داخل أطياف المجتمع وفرقه وعقائده من جهة، وبين المجتمعات بمختلف أنظمتها الفكرية والعقدية من جهة أخرى. ولهذا السبب تُسمّى هذه الصراعات بصراع العقائد والأيديولوجيات التي تعوق كلّ تفكير وتمنع كل حركة. ومن ثم يصير أمر الحديث عن كرامة الإنسان وحريته ومسؤوليته حديث خرافة عند هذين النمطين من الفكر والعقائد. في هذا السياق تظهر ضرورة المرور من الفكر إلى التفكير وقيمته. إن هذا المرور من الأيديولوجيات المغلقة والعقائد الساكنة أي من الفكر المتحكّم إلى التفكير يعني العودة إلى الجوهر الإنسانيّ في الإنسان وإيقاظه من سباته الدوغمائي ليقوم بدوره الحقيقي المتمثل في تحرير الإنسان من كلّ ما يتعارض مع كرامة الإنسان المأمور بالخلافة وإعمار الأرض، والذي لا يكون إلا بتجاوز عالم العبيد أي العبد المملوك إلى عالم العباد الأحرار. إذا كان الفكر هو كلّ ما يشدّ الإنسان ويستعبده، فإن التفكير هو كلّ ما يُحرّره ويدفعه للقيام بمهمته الأرضية القائمة على أساس النظر في ملكوت السماوات والأرض والآفاق والأنفس، والسير في الأرض للنظر في كيفية بدء الخلق. «إن التفكير هو قول لا» كما يقول آلان (فيلسوف فرنسي) «والحلّ ليس في كراس المعلّم» كما يقول مرلوبونتي (فيلسوف فرنسي). إن التفكير هو الفعل الوحيد الذي يُبقي على إنسانية الإنسان الواعي والمفكر والحر والمسؤول أمام نفسه وأمام المجتمع والتاريخ والله عن كل ما يمارسه ويفكر فيه. إنه الممارسة الوحيدة التي تُبقي على سحر السؤال في النفس البشرية وتقي الإنسان من شرّ التوقف عن التفكير بدعوى بلوغه الحقيقة المطلقة والنهائية، أو بدعوى أن ما قاله الأجداد هو عين اليقين، أو ما قاله العلم المادي هو آخر إمكانات البشر. إن التفكير يسمح لجميع ممكنات الإبداع البشري أن تجتمع وتتعاون لتمارس فعل النظر والعمل فيرتقي تديّن المجتمعات، وترتقي فنونها، وتتطور علومها، وتتسع تأملاتها، وتصير أكثر شمولاً وعمقاً «فتاريخ العلم تاريخ أخطائه» كما يقول بشلار (إيبستيمولوجي فرنسي). وإذا نجح العلم نسبياً في تقديم إجابات معينة وقابلة للتطور والتجدد عن الكون والإنسان، فإنه لا يستطيع بحكم طبيعته ومنهجه أن يحيط بجميع أبعاد الوجود والحياة الإنسانية. وبهذا نتجاوز الأيديولوجيات العلموية المتعصبة للعلم والضيقة والعاجزة عن رؤية سحر الوجود وجماله وغموضه لنفتح أعيننا على الفضاء الفلسفي اللامتناهي الذي يجد فيه الإنسان كل قدراته وإمكاناته فاعلة نظرياً وعملياً. وفي هذا السياق يتسع نظرنا في الدين والعلم والفن والتقنية، وتتحد الإنسانية في غايات كبرى هي تحقيق الحق والخير والجمال وتصير الحكمة ضالة المؤمن أخذها حيث وجدها وبتعبير الكندي (أول فيلسوف عربي) «ينبغي أن لا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق..» ولعل شرط تحقيق هذا الأمر وممارسته أن نرفع شعار الاستقلال الذي رفعه الإمام الغزالي (من فلاسفة الإسلام) حين قال مواجهاً تعدد الفرق: «فعليك بالاستقلال» لأن الاستقلال شرط إنسانية الإنسان وشرط المرور والنقلة من الفكر إلى التفكير وإنجاحهما.