لطالما كان الحديث عن شأن الاستثمارات في زمن كورونا من الأمور الشائكة التي يعزف الصحافيون الاقتصاديون عن الحديث عنها. خلال هذا الشهر التقيت العديد من الصحفيين والساسة الأميركيين في واشنطن مثل نائب مساعد وزير الخارجية دايفيد ماك وعضو الكونغرس براين ماتز وكذلك المبعوث الأميركي إلى ليبيا جوناثان واينر وكان الحديث عن نجاحات صندوق الاستثمار السعودي خلال النصف الأول من هذا العام بالرغم من جائحة كورونا، يرد أكثر من مرة خلال نقاشاتي معهم. كنت أقول إنه لا مجال للاستغراب في أن يحقق صندوق الاستثمارات العامة السعودي هذه القفزات النوعية من الإنجازات فقد استطاع تجاوز 22 مركزا منذ العام 2015، وبلغ المركز التاسع عالميا، وذلك بفضل الاستراتيجية الاستثمارية التي ينتهجها، والتي تستند إلى أسس أكثر تطورا، وأقل مخاطرة حتى في ظل انهيار الأوضاع الاقتصادية على مجمل الساحة الدولية، حيث كان استشراف المستقبل لصندوق الاستثمارات العامة يبنى على توجه ونهج سليم من خلال تنويع مجالات الاستحواذات والصفقات على الأنشطة كافة منها الخارجية وكذلك الدخول في تحالفات دولية استثمارية ضخمة العائدات، وهذا ما سجله الصندوق في الآونة الأخيرة مستفيداً من الظروف الحالية التي يمر بها اقتصاد العالم ومؤسساته المختلفة، وأيضا فإن هذا التوجه ينبع من قوة ومتانة مؤشرات الاقتصاد السعودي والخطط التي ينتهجها والنمو الثابت والمستمر الذي يحققه وفي تحليل بسيط فإنه ما كان لصندوق الاستثمارات العامة أن يحقق هذه القفزات، لولا عاملان أساسيان: الأول إعادة هيكلة الصندوق ليتماشى مع الاستراتيجية الاقتصادية العامة للمملكة المستندة إلى رؤية المملكة 2030، والعامل الآخر تسلم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رئاسة مجلس إدارة الصندوق في العام 2016. هذان العاملان زادا من مستوى الثقة بهذا الصندوق والمستمدة من الثقة التي يتمتع بها اقتصاد المملكة على الساحة الدولية، بما في ذلك احتفاظها بتصنيفها السيادي حتى في ظل التراجع الكبير لأسعار النفط في السوق العالمية بسبب وباء كورونا وكذلك في العام 2014 عندما وصلت أسعار النفط إلى مستويات تاريخية متدنية مما جعل لوضعية هذا الصندوق متانة قوية تفتقدها صناديق عالمية أخرى حيث كان الصندوق قد وضع استراتيجية وطنية تهدف إلى تنويع موارد الاقتصاد الوطني، بدءا من زيادة قيمة أصوله بشكل يجعله قادرا على إيجاد موارد جديدة، وصولا إلى توطين التقنية والمعرفة المتطورة، ثم الانطلاق بعد ذلك إلى تأسيس شراكات اقتصادية عملاقة تسهم في تعميق أثر ودور المملكة في المشهدين الإقليمي والعالمي. ولننظر في عجالة إلى النتائج التي أنجزها الصندوق في النصف الأول من هذا العام لنتأكد من حقيقة النجاح والوصول إلى الهدف المنشود الذي تم وضعه. مطلع هذا العام انطلق صندوق الاستثمارات السعودي يجوب جميع أرجاء الأسواق العالمية ويقتنص الفرص المتاحة ليكون اسمه إلى جانب أهم الصناديق السيادية على مستوى العالم. ولاشك أن ما أشارت إليه وكالة «بلومبيرغ» من أن الصندوق السعودي اقتنص بالفعل بعض الفرص الاستثمارية المهمة في الفترة القليلة الماضية يثبت ذلك. حيث أظهرت بيانات الوكالة قيام الصندوق بتنفيذ عدد من الصفقات ودخوله في صفقات أخرى خلال الفترة من 26 مارس 2020، حتى نهاية أبريل. وقالت الوكالة ما نصه: «في الأسابيع القليلة الماضية نزل صندوق الاستثمارات العامة بثقله في الأسواق العالمية، واشترى مجموعة كبيرة من الأسهم لشركات ذات ثقل في أسواق المال والأعمال، وحقق بهذا الشراء مكانة متقدمة بين الصناديق السيادية العالمية. وإن إجمالي قيمة استثمارات صندوق الاستثمارات العامة في الأسواق الأميركية حتى نهاية مارس الماضي بلغ 9,777 مليارات دولار، كما أن قطاع التكنولوجيا جاء في صدارة القطاعات التي يمتلك فيها صندوق الاستثمارات العامة حصصا بقيمة إجمالية تقدر ب3,279 مليارات دولار، ثم جاء النفط والغاز في المرتبة الثانية كأكبر القطاعات المستثمر فيها الصندوق موزعة على شركات بي بي النفطية، ورويال داتش شل، وسنكور للطاقة وسي إن آر إل، وشركة توتال، كما أن قطاع البنوك جاء في مقدمة قائمة استثمارات الصندوق السعودي بقيمة 1,01 مليار دولار، ثم جاء قطاع الإعلام والترفيه بقيمة 912 مليون دولار موزعة على والت ديزني ب495,8 مليون دولار، ولايف نيشن ب416,1 مليون دولار، فيما جاء قطاع صناعة الطيران بقيمة 713,7 مليون دولار ممثلة في شركة بوينغ العالمية. أما بالنسبة إلى قطاع النقل البحري فقد بلغت استثمارات الصندوق نحو 456,9 مليون دولار ممثلة في شركة كارنيفال. وفي قطاع الأدوية يستثمر الصندوق السعودي في شركة فايزر العملاقة بقيمة 78,5 مليون دولار، وشركة باركشر هاثاواي بقيمة 78,4 مليون دولار، أما في قطاع نظم الاتصالات، فإن استثمارات الصندوق بلغت نحو 77,6 مليون دولار في شركة كوالكوم، وبالنسبة إلى قطاع الأغذية فإن استثمارات الصندوق بلغت نحو 77,6 مليون دولار في شركة ستاربكس، وأيضا في قطاع السياحة فقد بلغت استثمارات الصندوق نحو 513,9 مليون دولار ممثلة في شركة ماريوت وبوكينغ ب78 مليون دولار». انتهى تقرير الوكالة. أما إذا نظرنا إلى الإفصاح الذي تقدم به الصندوق لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية في الخامس عشر من مايو الماضي فسنلحظ أن صندوق الاستثمارات العامة استثمر في 23 شركة خلال الربع الأول من العام الجاري وبذلك أصبح يمتلك حصصا في 24 شركة مدرجة في الولاياتالمتحدة إذ كانت لديه حصة في أوبر لا تزال قائمة. حيث تجدر الإشارة إلى أن جميع الأرقام التي قدمت تعكس الأرباح الرأسمالية التي حققها الصندوق على محفظته الأميركية منذ مطلع الربع الثاني وحتى الخامس من يونيو الحالي. حيث تكلم الإفصاح عن أنه بنهاية الربع الأول من هذا العام بلغت القيمة الإجمالية لحصص صندوق الاستثمارات العامة في الشركات المدرجة بالأسواق الأميركية 9.77 مليارات دولار حيث ارتفعت قيمة إجمالي استثمارات الصندوق بنسبة 32 % منذ نهاية مارس وحتى إغلاق الخامس من يونيو ما يعني أن قيمة استثمارات الصندوق ارتفعت إلى نحو 12.92 مليار دولار، بزيادة قدرها 3.141 مليارات دولار خلال تلك الفترة. وفي نتيجة ذلك الإفصاح نلحظ تصدر قطاع التكنولوجيا القطاعات التي يمتلك فيها صندوق الاستثمارات العامة حصصا في الشركات المدرجة في وول ستريت، لتكون الحصة الأكبر من نصيب أوبر بقيمة تتجاوز ملياري دولار بنهاية الربع الأول. هذا إلى جانب حصص في فيسبوك وسيسكو وAutomatic Data Processing، وInternational Business Machines، وBroadcom Inc بقيمة إجمالية تقارب 3.3 مليارات دولار حيث نمت هذه الاستثمارات بنسبة 32 %، أي بمليار دولار في شهرين تقريبا. أما قطاع النفط والغاز فجاء في المرتبة الثانية كأكبر القطاعات المستثمر بها من جانب الصندوق في وول ستريت بإجمالي 2.4 مليار دولار كما بنهاية الربع الأول. وقد نمت قيمة هذه الاستثمارات بنسبة 24 % ومن بين الشركات هذه BP، وRoyal Dutch Shell، و Suncor Energy، وTotal SA ، وCanadian Natural Resources. أما بالنسبة لاستثمارات صندوق الاستثمارات العامة في المصارف وتحديدا في سيتي غروب وبنك أوف أميركا، فقد ارتفعت بنسبة 36 %، خلال الفترة ذاتها. وأما الاستثمار الذي سجل النمو الأكبر منذ نهاية مارس وحتى الخامس من يونيو فهو الاستثمار في شركة كارنيفال للسفن السياحية والذي ارتفعت قيمته 63 %. (انتهى الجزء المقتبس من الإفصاح). وفي خلاصات حول تلك التقارير ومن خلال متابعتي الصحفية لهذا الملف أقول: * تقارير تقييم صناديق الثروة السيادية حول العالم استندت إلى كثير من المعايير للوصول إلى هذه النتيجة التي هي نجاح صندوق الاستثمارات العامة في الوصول لأهدافه المرسومة بفضل السجل المتطور الذي يحتفظ ويتميز به هذا الصندوق حيث إنه في أقل من خمسة أعوام، احتفط بأموال بلغت 360 مليار دولار، بعد أن كانت بنهاية 2015 في حدود 152 مليار دولار. وهذه الزيادة لم تحدث في مختلف الصناديق السيادية العالمية الأخرى ما يعزز توجه الإدارة المشرفة عليه والتي تستند بدورها إلى مجموعة من المخططات الاستراتيجية مدعومة بالطبع من خطط وبرامج رؤية المملكة 2030 التي يقودها سمو ولي العهد. * في الآونة الأخيرة اقتنص الصندوق فرصا استثمارية مهمة، بما في ذلك رفع مستوى استثماراته في الأسواق الأميركية 350 في المئة وهي الأسواق التي تزدهر حركتها الاستثمارية بوتيرة قوية، وذلك بالتزامن مع هبوط أسعار الشركات العملاقة بسبب كورونا، يضاف إلى ذلك استثمارات في مجالات مختلفة، رفعت من قيمة رأس المال لهذا الصندوق، ودعمت موقعه بين الصناديق الكبرى الأخرى ليصبح في المرتبة التاسعة عالمياً. * إذا نظرنا في الصفقات التي نفذها الصندوق سنرى أن أهم ما يميز الصفقات التي نفذها الصندوق السعودي هو أنها تتكامل وتتمتع بموثوقية عالية، والأمل كبير في جني كثير من الأرباح في المستقبل. حيث إن صندوق الاستثمارات العامة ينظر قريبا فرصا للاستثمار في مجالات أخرى، مثل الطيران، والنفط والغاز، والترفيه وهناك فرص استثمارية عديدة ستنشأ فور انقضاء أزمة فيروس كورونا حيث ستكون للصندوق جولة جديدة من جولات الشراء والاستحواذ لأصول ذات أبعاد مستقبلية يتوقع لها نجاح استثماري كبير مما يدفع بالصندوق ليكون واحدا من أكبر الصناديق السيادية في العالم. * أصبحت اليوم قيمة صندوق الاستثمارات العامة في المملكة في حدود 4.4 % من الثروات السيادية الأخرى في العالم البالغة 8.23 تريليونات دولار. وباختصار فإن الأرقام تعكس وتتحدث عما أنجزه حيث قفزت قيمة هذا الصندوق في خمسة أعوام 137 %. وهذا يدعم نجاح الاستراتيجية المتبعة في تنمية الصندوق عبر التنوع في استثماراته المضمونة التي شملت القطاعات الاستثمارية والاقتصادية كافة من خلال استخدام مفاهيم اقتصادية حديثة تتماشى مع ما تتطلبه الحركة الاقتصادية في العالم. * الهدف الذي وضعته القيادة والذي يتمثل في رفع قيمة هذا الصندوق حتى نهاية العام الجاري إلى 400 مليار دولار يقترب من الهدف المنشود. في حين أنه تعرضت صناديق سيادية أخرى في العالم إلى تراجع كبير منذ منتصف العقد الحالي حتى الآن، وكذلك فإن بعض الصناديق ظل عند حدوده من حيث القيمة دون تغير يذكر بما فيها تلك الموجودة ضمن قائمة أكبر الصناديق السيادية عالميا. ختاما: يبدو واضحا وبما لا يدع مجالا للشك أن الأمور تمضي قدما وفق ما خطط لها من جانب الرؤية التي يقودها ولي العهد والتي تقوم في الوقت نفسه ببناء اقتصاد وطني جديد، يلبي كل الاحتياجات اللازمة للمملكة حاضرا ومستقبلا.