هزَّت الحادثة المؤلمة لجورج فلويد أميركا والعالم، بل كلُّ إنسان له شعور فإنه يتألم -جداً- أن تقع مثل هذه الحوادث. وقد استدعى هذا الحادث أن يعيد العالم الحديث عن العنصرية، وهو حديث طويل بعيد المدى. والسبب الرئيس الذي جعل هذه العنصرية شائكه حتى وإن وُضِعَت الأنظمة لتقليم أظفارها هو أن هذا الإنسان ما زال يعتقد تفوقه على غيره بسبب جنسه أو لون بشرته أو حتى ناحيته في العالم حيث تشرق الشمس أو حيث تغرب. وكانت هذه الحادثة مدعاة للحديث عن الدين الإسلامي في سموِّ نظرته إلى الإنسان. الإسلام ألغى هذه الفوارق: الجنس.. اللون.. البلد.. إلخ: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). ولذلك كان كثير من أتباعه في بداية دعوته هم الضعفاء والمساكين والأرقاء؛ لأنهم وجدوا فيه روح المساواة والكرامة. لقد تجاوز الإسلام بنظرته السامية كلَّ هذه الطبقات والفوارق، ليتجه إلى معدن الإنسان الحقيقي، إلى قلبه وإلى روحه، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم قال نبي الإسلام -عليه الصلاة والسلام : (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم). وهذه التعاليم الإسلامية ظهر أثرها -باكراً- في حياة المسلمين، ترى ذلك في صفوفهم في الصلاة، وتراه كذلك في مجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً الحبشي رضي الله عنه مؤذنًا له منذ أن شُرع الأذان، وكان صوته نديًا بالأذان، وصار هذا الصحابي الجليل رمزاً لإزالة الفوارق الطبقية في المجتمع المسلم، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو عمر سيد في الجاهلية وسيد في الإسلام- قال: أبوبكر سيدنا أعتق بلالاً سيدنا. والأكيد أن كلمة عمر هذه لم تكن كلمة عابرة، بل كانت نهج حياة دخل بسببه كثير من الناس في الإسلام. وعلى نهج عمر ابنه عبدالله، فقد كان له ابن سماه بلالاً على اسم بلال بن رباح رضي الله عنه، فسمع -مرة- شاعرًا يمدح بلال بن عبدالله بن عمر، فقال في شعره: وبلال عبدالله خير بلال. فقال ابن عمر رضي الله عنهما: كذبت، بل وبلال رسول الله خير بلال. ودعونا نستحضر هذا المشهد، ونحاول أن نعيش عبقه، ونشم نسيم الفجر معه.. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بلال، وهذا حديث دار بينهما عند صلاة الفجر وقد تنفس الصبح، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت الليلة خشفة نعليك في الجنة) قال: ما عملت عملاً أرجى من أني لم أتطهر طهوراً تامًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت لربي ما كُتب لي أن أصلي). إن بلالاً ببشرته السوداء سيد من سادات المسلمين، فهو من السابقين الأولين الذين عذبوا في الله، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم على التعيين بالجنة. ويستمر هذا النهج الإسلامي في إلغاء الطبقيات والعنصريات، وإن كان يقوى ويضعف بحسب رسوخ القيم الإسلامية في المجتمع. وقف الأحنف بن قيس على قبر الحارث بن معاوية المازني فقال: رحمك الله أبا المورّق، كنت لا تحقر ضعيفًا، ولا تحسد شريفًا. وهذا نظام الملك وهو وزير مشهور في القرن الخامس الهجري أنشأ المدارس النظامية يتعجب من أبي إسحاق الشيرازي إمام الشافعية في وقته وصاحب متن المهذّب في الفقه الشافعي. ووجه تعجب نظام الملك من أبي إسحاق: أن أبا إسحاق كان عنده، فكلَّمه نظام الملك في أمر ما فلما انتهى من محادثته، قال له أبو إسحاق: بارك الله فيك. ثم إن "نهروز" خادم نظام الملك صبَّ الماء لأبي إسحاق ليتوضأ، فقال له أبو إسحاق: بارك الله فيك. فعلَّق نظام الملك على هذا الموقف متعجبًا مثنيًا وقال: كيف حالي مع رجل لا يفرِّق بيني وبين نهروز الفرَّاش في المخاطبة؟ قال لي: بارك الله فيك. وقال له لما صبَّ عليه كذلك. وهكذا يفعل الإسلام في نفوس أهله فلا يرى أحدهم أن له فضلاً على أخيه بل يظنُّ أنه دونه وأقل منه شعوراً نفسيًا حقيقيًا لا مصطنعًا. ونحن في المملكة لا ندعي المثالية، فنحن مجتمع بشري له فضائله ونقائصه، وينبغي أن نسعى دائمًا لأن نكون أفضل وأفضل، بيد أنني أشعر أننا مجتمع متجانس له عاطفته المشتركة، وله شعوره الإنساني المستند إلى الفطرة، وهذا التجانس مردُّه في نظري إلى أمرين: 1/ القيم الإسلامية الراسخة التي تؤكد الأخوة والتراحم والتعاون والمساوة. 2/ منشأ هذه الدولة المباركة "المملكة" التي قامت على هذه القيم، ثم أسلوب الحكم الذي قام على رعاية المواطنين دون أي تفرقة، بل حتى من يعيش على ثراها من غير أهلها، الكثير منهم يجد في المملكة من العناية والرعاية أكثر مما يجده في بلده.