سيتوقفون عن استخدام ذاكرتهم، وسيصبحون كثيري النسيان، سيصبحون قادرين على استقبال قدر كبير من المعلومات بدون الاستعداد والتوجيه السليم، سيظنون أنهم واسعو الاطلاع جدًا، بينما هم في الغالب جهلة، سيكونون مليئين بوهم الحكمة بدلًا من حقيقة الحكمة.. من المدهش جدًا عندما تقرأ هذه العبارات تجدها غائرة في التاريخ البشري؛ حيث تعود إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام، عندما ارتاب أرسطو حينها من أن وسيلة الكتابة ستكون مسببة لحالة من النسيان لدى من يطلبون العلم، فقد نقل كلامًا على لسان «آمون» الملك الفرعوني عن خطر الكتابة كوسيلة لحفظ المعلومات فيما يُعرف بحوار أفلاطون مع أرسطو.. هذه النظرة القديمة لإحدى وسائل الاتصال والمتمثلة في الكتابة تجعلني أقف عند الحتمية التي جاء بها فيسلوف العولمة مارشال ماكلوهان، الذي يرى أن «العالم قرية عالمية»، وأن طبيعة وسائل الإعلام المستخدمة في كل مرحلة من مراحل تطورها هي التي تساعد على تشكيل المجتمع أكثر مما يُساعد مضمون تلك الوسائل على تشكيل هذا المجتمع، فالوسيلة عند ماكلوهان هي الرسالة، بمعنى أن مضمون وسائل الإعلام لا يُمكن الالتفات إليه بمعزل عن تقنيات الوسائل الإعلامية ذاتها، فهذه الوسائل هي التي تُشكل المجتمعات أكثر مما يُشكلها مضمون الاتصال.. ودون الاستطراد حول هذه الحتمية التكنولوجية نجد أن وسائل الإعلام مؤخرًا تدفع بالمجتمع نحو عالم افتراضي يسلب من الواقع واقعيته وبساطته وحيويته بصورة واضحة، فمثلًا نجد القنوات الفضائية بدلًا من أن تدفع جمهورها إلى فضائه الواقعي ليُناقش طبيعة ما تعرضه من محتوى، فإنها تنقله إلى فضاء الهاشتاق، فنجد هاشتاق المسلسل، وهاشتاق البرنامج، وهاشتاق الفيلم، وبالتالي تُناقش الآراء حول هذه البرامج في فضاء افتراضي متمثل في مواقع التواصل الاجتماعي بدلًا من الواقع الطبيعي.. فأسلوب تلقي المعلومة أو صياغتها والنقاش فيها حسب هذه النظرة يتغير حسب الوسيلة المستخدمة، فمثلاً عام 1882م استخدم الفيلسوف نيتشه للمرة الأولى الآلة الكاتبة لينسخ عليها فلسفته بعد أن ضعُف نظره بدلًا من الكتابة بخط يده مباشرة على الأوراق، ولكن أحد أصدقائه يقول: لقد لاحظت أن كتاباته قد تغيرت من الحجج إلى البراهين، ومن الأفكار إلى التورية، ماذا حدث؟ الذي حدث أن وسائل الاتصال والإعلام لها تأثير في المجتمع وفي طريقة صياغة أفكاره سواء كانت أفكارًا نتشوية أو هابرماسية.. وفي سياق واقعنا الحالي، من الواضح أن المجتمع الافتراضي سيطر على عالم الأفكار الحقيقي، فأصبحنا نمشي على الخريطة بدلًا من ذاكرة المكان، وعلى ساعة الهاتف المحمول بدلًا من ساعة اليد، وعلى الكيبورد بدلًا من القلم، والقائمة تطول، تطول جدًا.. ومن المفارقات العجيبة أن ماكلوهان منذ الستينات الميلادية أكد أن الفرد يجب عليه أن يتعرف على مدى تأثير وسيلة الإعلام فيه، حتى يفلت من المشكلات التي قد تترتب عليها، ولكننا في الواقع نجد إقبالًا مهولًا من قِبل الناس على امتلاك هذه الوسائل والاستعاضة بها بدلًا عن الاتصال الشخصي المباشر، فنجد أن هذه الوسائل الجديدة تسهم في تناقص المعرفة، والحالة الوجدانية التي كان من الممكن أن يحصل عليها الفرد من خلال التعرض لسياقات اتصالية مختلفة، والتي تُساعد بدورها على الفهم والعُمق في النقاش والشعور..