لطالما ظلت الثروات البشرية وما تكتنزه من قدرات متنوعة أهم رهانات الحضارات المتتالية بل حتى التجمعات البدائية منذ فجر التاريخ، وتندرج الأجيال المتعاقبة من الأدباء والمفكرين ضمن تلك القدرات القومية والمنح الربانية الخالدة. وعبر هذه الزاوية «كتب وقراءات» نُسلط الضوء على ثمرات وإنتاج أدباء ومؤلفين، أثروا الساحة الثقافية بنتاجهم الأدبي والمعرفي، واكتسبوا مكانة مرموقة في الذاكرة البشرية المتراكمة، بعد أن ساهموا في تشكيل المشهد الثقافي العربي العالمي الذي يعيش أزهى عصور التواصل الكوني الشامل. فن التفكير كتاب "فن التفكير.. مفتاح للتعليم العقلي" كتاب مُهم للمؤلف أرست دمنية (1866-1954) الكاتب في مجال التفكير والاستدلال، وقام بالترجمة رشدي السيسي الذي تحدث عن هذا الكتاب قائلاً: أصابني الوهم عندما قرأت عنوان هذا الكتاب الذي بين يدي قارئه اليوم والموسوم ب "فن التفكير" فخِلته من ذلك الغُثاء المسمى بالمبرمجة العصبية الذي إن أصاب بعضُه كبدَ الحقيقة وأنشأ عند البعض دواعي وحوافز للاجتهاد والإبداع فقد أخطأ معظمُه وأنشأ عند الغالب الأوهامَ وبنى في نفس صاحبه "أنا" متضخّمة تُورِده المهالك وتُجرَئه على ما لا يحسن، وقد فاض وطننا العربي بكل مدّر مُتعالمِ ليس في جعبته إلا الهراء والهباء ووقتاً ضائعاً ومالاَ وظمأ وإن حسبته ماء. وقد أعرضت عن الكتاب في البداية فلما أُغريتُ بقراءته ندمت على سوء الظن الذي رميته به واستغفرت الله من زلتي، وأقبلت على القراءة بكليّتي متنقلاً بين بيانه ومعانيه وحِكمه ونصائحه ولفتاته المدهشة، بل قُلْ بين مغانيه، ولقد كان صاحب الكتاب يُحسن أن يتبين حال قارئ كتابه فيُوطد له سبيلاً إلى الفهم لاحِباً. وأزعم أن هذا الكتاب من أكثر الكتب في بابه نفعاً ومن أشدها قرباً لأذواق الناس عموماً، فلا تجد لفظاً يبعد بك النَّجْعة أو معنى مثالياً لا يحسَنُ أن تشرئب له نفس القارئ القاصد. وقد أحسنَ مؤلفه ترتيبه يمائل دواعي النفس رفضاً وقبولاً في بعض أمرها، فهو يخلص من باب لينشئ باباً آخر وثيق الصلةِ بسلفه، وآخذٌ بعنفه كأنها سلسلة إذا ما أخذها القارئ بحقها تدبراً وفهماً ظهرت آثارها في حياته سلوكاً ونهجاً. وجاء في الفصل الثاني من هذا الكتاب حديث المؤلف أرنست دمنيه عن "كيف يقوم الفكر" حيث قال: قد يبدو من العسير الكشف عن طبيعة تفكير إنسان ما بسبب الطبعات المختلفة التي عادة ما يكون الفكر الحقيقي مختفياً تحتها، بيد أننا إذا استخدمنا الاستكناه الباطني زالت كل صعوبة ظاهرة، وستوضح تجربة أو اثنتان أن مقاييس التقويم لفكر إنسان هي أولاً الصور الذهنية التي مرن عليها نفسها؛ وثانياً ضروب الحب والبغض المتعلقة بنجاح أكثر أو أقل. وواضح أن الشخص المفعم عقله بصور ذهنية للمتعة التافهة، والراحة، والطعام الجيد، والملابس الفاخرة، والرقص، والأسفار، والصحبة المسلية، وبالاختصار للهناءة المادية، أبعد جداً عما ندعوه بالفكر من الشخص الذي ستستحوذ على لبه وخياله المناظر الرائعة -مثل مناظر إيطاليا الطبيعية- ذا العناصر النبيلة، وغرابة الأثريات وعراقتها، والمتاحف المليئة بنماذج الجمال، وضروب الحياة الفنية في كل مكان. الثقافة كتاب "الثقافة" منشور عن جامعة بيل الأمريكية العريقة عام 2016 للكاتب البريطانيّ الذائع الصيت تيري إيغلتُن وهو ناقد ومنظّر أدبي وباحث في حقل الدراسات الثقافية وسياسات الثقافة، وقامت بترجمة وتقديم الكتاب إلى اللغة العربية الأديبة لطفيّة الدّليمي، وصمم الغلاف ماجد الماجدي، والناشر دار المدى، وهو كتاب مستقلّ ومتميّز عن كابٍ آخر نشره المؤلف إيغلتُن من قبلُ بعنوان: "فكرة ثقافية".. وظلت مفردة "الثقافة" واحدة من أكثر المفردات إشكالية على صعيد المفهوم والتطبيقات، كما ظلّت الدراسات الثقافية -التي تعدُّ حقلاً معرفياً تتداخل فيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وتأريخ الأفكار واللغويات والفلكلور والسياسات الحكومية المؤسساتية- ميدان تجارب لم يخفت صدى المعارك الفكرية المحتدمة فيه وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحيث باتت الثقافة وسيلة من وسائل القوة الناعمة في الحرب الباردة ثم ّ انقلبت سلاحاً من أسلحة العولمة التي تسعى لتوسيع نطاق الرأسماليات الرمزية المدعمة بمصنّعات مادية تُعلى شأن الاقتصاديات المتفوقة وترسّخ سطوتها على الساحة العالمية. وقالت عن هذا الكتاب لطفيّة الدّليمي: يعدُّ بحثاً تأريخياً -سوسيولوجياً- أنثروبولوجياً مركباً في مفهوم الثقافة، وهو مكتوب بطريقة إيغلتُن المميزة التي يركزُ فيها على ثمياتٍ محدّدة في سياق الموضوعة الكبرى التي يتناولها، ومعروفٌ عن إيغلتُن نفوره من الصلابة الأكاديمية السائدة وميله لاعتماد العبارات القصيرة المتلاحقة التي هي أقربُ إلى تأكيد لموضوعات راسخة؛ وبهذا يكون إيلغتُن بحّاثه مريحاً للقارئ الذي يسعى للحصول على فكرة شاملة وسريعة وجيّدة التناول عن موضوعه البحث، وإذا ما كان الحديث يتناول موضوعة معقّدة وكثيرة الاشتباكات مع الحقول المعرفية الأخرى لقراءات شاملة أكثر تخصصاً في الوقت ذاته. يُضافُ هذا الكتاب على مجوعة منتخبة من كتب إيغلتُن المنشورة حديثاً عن جامعة ييل العريقة والتي تعكف دار المدى على ترجمتها وتقديمها إلى القارئ. بورخنيس وسابتو.. محاورات بوينس آيرس كتاب محاورات "بوينس آيرس لخورخي لويس بورخيس وإرنستو ساباتو" تدور بين علمين من أعظم الكتّاب الارجنتينيين، وجمعتهما بوينس آيرس لمواجهة بعضهما البعض بعد عشرين عامًا من التباعد لأسباب سياسية، وكانت على مدى ثلاثة أشهر في محاورات أدبية ونقدية رفيعة بعيداً عن التعارضات السياسية، ومن خلالها تبادلا رؤى عوالمهما وأكوانهما التخيلية بشأن مواضيع شائكة وبحمولات عميقة لا تنسى، وهاجعة في الأدب العالمي والتراث الإنساني عامة، ومست موضوعات مثل الربوبية، الصحافة، المسرح والسينما، القصة والرواية، التانغو، الترجمة، الإبداع، الأحلام، اللغة، وتكييف الأعمال الأدبية، وأدار الحوار الأديب الارجنتيني أورلاندو بارون، وترجمه إلى العربية الكاتب والمترجم المغربي أحمد الويزي عن دار "شهريار" العراقية. بدأت شهرة بورخيس في مطلع عقد 1961 ففي عام 1961 م حصل على جائزة "فورمنتر "مشاركة مع صاموئيل بكيت. ويعتبر بورخيس من أبرز كتاب القرن العشرين من خلال قصصه القصيرة ومقالاته وحواراته وقصائده بالإضافة إلى الكتابة فقد كان شاعراً وناقداً وله العديد من المسرحيات وكم كبير من النقد الأدبي والافتتاحيات وتعقيبات على كتب وعدد ضخم من المختارات الأدبية. كما كان مترجماً بارعاً للأدب من الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى الإسبانية، وله عدة رسائل ترجمت أعماله إلى لغات عديدة منها: الإنجليزية والسويدية والعربية والإيطالية والألمانية والفرنسية والدنماركية والبرتغالية. ويؤكد "أن كل كتاب يحمل في داخله نقيضة ومضاعفة ويبقى مختلفاً عن نفسه لأنه يضم ذخيرة لا حصر لها من التشعبات فكل كتاب في حاجة إلى كتاب آخر ليتعرف إلى نفسه". وقد حصل بورخيس على عشرات الأوسمة والتكريمات فيما تلا من سنوات، ومثال ذلك حصوله على وسام جوقة الشرف الفرنسية وجائزة كيرفانتس، وضعف بصره بالتدريج حتى فقده. ولد ساباتو بمدينة روخاس عام 1911 بعد دراسته الثانوية بالأرجنتين، التحق بفرنسا لاستكمال تعليمه الجامعي، فحصل هناك على الدكتوراه في علوم الفيزياء عام 1938، بعد ذلك تفرغ للتدريس في الجامعة ردحاً من الوقت، ثم حصر اهتماماته فيما بعد في العمل الجمعوي المرتب بالمطالبة بحقوق الإنسانية. وفي عام 1945 نشر كتاب "وحي والعالم"، فيحصل على إثر ذلك على جائزة النثر من بلدية بوينس آيرس، بعد ذلك أصدر مجموعة من المؤلفات الفكرية والأدبية، ثم حصل على جائزة سيرفانتيس، أكبر جائزة في الأدب المكتوب بالإسبانية. وليس بورخيس وساباتو سوى مجموع المؤلفات، التي دبّجاها، والريبورتاجات التي خلّفاها، والحياة التي عاشاها بكافة ألوان طيْفها، وكذا النواقص التي عانيا منها؛ وهما أيضاً العين والعمى، وهذه الحوارات كذلك!. ومن تلك الحواريات التي جرت بين اثنين من عمالقة الأدب والفنون والثقافة بشكل عام نقتطف هذه الجزئية من هذا الكتاب: بورخيس: أذكر إحدى التجارب التي مررت بها ذات مرة، قرأت قصة قصية لكافكا، نشرتها مجلة لم أعد أذكر اسمها اليوم، وكانت تُعنى بفنّ التعبير، حينها، استغربت لنشر هيئة تحرير المجلة، نصاً يكاد يكون سطحياً وفي غاية الابتذال، ضمن مجلة تعنى فقط بالغريب والمولّد. بالتأكيد، لم أنتبه إلى أن القصة كانت في كتابتها أكثر تعقيداً من بقية ذلك اللعب اللفظي الذي نشره الآخرون، إلا فيما بعد. يومها، كان لي بالطبع، خمسة عشر عاماً فقط. وأعتقد أني لن أرتكب اليوم، نفس الخطأ الذي وقعت فيه، حينئذ. لا بد أني استوعبت الدرس!.. ساباتو: لهذا طالت بتوضيح ما ينبغي أن يُفهم من عبارة "التورة اللغوية". إنّ عمل كافكا الأدبي كله يختصر مفهوم الثورة اللغوية. ففي عمل أدبي يتكوّن من ثلاثمائة صفحة، منح هذا الأديب للفظة "المحاكمة" معنى جديداً وغير مكرور ولا متداول أو مبتذل. فقد ألبس الكلمة أصداء وترجيعات ميتافيزيقية ودينية لا حدّ لها، من خلال ذلك العمل الأدبي. بورخيس: هذا صحيح إن "المحاكمة" هي في ذاتها، لفظة مسطّحة. سباتو: إن عمل الأديب باللغة أشبه ما يكون بمنجز لاعب الشطرنج الكبير: فو يستطيع بمهارة أن يلعب مباراة متألقة، بنفس البيادق التي لا يستعملها اللاعب الرديء، سوى للعب مباراة رديئة. إرنستو ساباتو خورخي بورخيس تيري إيغلتُن لطفيّة الدّليمي ارنست دمنية بكر هذال