عندما نتحدث عن التعليم كبنية حضارية يقوم عليها بناء الأمم، ويستند إليها مستقبل الشعوب، وتؤسس على مداميكها الحضارات، علينا قبل كل شيء أن نخضعه للنقد الإيديولوجي، والتساؤل المعرفي للوصول إلى بنية ثقافية ينهض عليها التطور والارتقاء المنشودان. لقد بذلت الدولة ممثلة في قياداتها، منذ تأسيسها على يد المغفور له الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وإلى يومنا هذا، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ونجله ولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظهما الله، المال الكثير والجهود المضنية من أجل الارتقاء بالإنسان السعودي ابن الصحراء إلى أرقى المعالي وأسمى الرتب. وكان التعليم ولا يزال يشكل هاجساً أيديولوجياً للوطن بأسره، باعتبار أن بناء الإنسان المتحضر هو استثمار حضاري لبناء الوطن، وسيظل هذا الهاجس محل اهتمام وستظل إيقاعاته عالية الصوت والنبرة، ذلك إن البناء الحضاري والتطور المعرفي لا يمكن أن يكتملا على امتداد العصور فهما يتفاعلان مع الزمن وتتبلور رؤيتهما وفق معطيات العصر ومتغيرات واستراتيجيات الوطن. من هنا فإن سياسية التعليم هي سياسية تفاعلية دائمة؛ تحتكم على الدوام إلى النظرية والتطبيق، فمن خلالهما يمكننا التوصل، مرحلياً، إلى النهوض بالتعليم للمكانة السامقة التي يستحقها. سأحاول في عدد من المقالات أن أقدم بعض الرؤى التي آمل أن تكون إضافة متواضعة لصرح هائل هو التعليم. وأبدأ هنا بتقديم رؤية تتعلق بالنشاط المدرسي والذي اعتبره ركيزة مهمة من ركائز التعليم باعتباره ينطوي على بناء العديد من المهارات الحضارية والإنسانية، ويعطي الطالب متنفساً للإبداع في عدد من المهارات والترويح عن النفس وكسر حاجز غرفة الدراسة. النشاط المدرسي بسياسته الحالية تحول إلى عقاب للطالب والمعلم على السواء؛ من حيث إضاعة الوقت فيما لا يعود بالنفع، وجل ما يطمح إليه قادة المدارس هو إرضاء مسؤولي التعليم بتأخير انصراف الطالب والمعلم فكيف تتحقق الجدوى، والمطلوب من قائد المدرسة أن يتيح الفرصة ل 800 طالب أو500 طالب، على تقدير، لممارسة نشاط تعليمي وترويحي خلال ساعة واحدة وفي فصول المدرسة نفسها والتي يدرس فيها الطلاب، حيث يتجه كل طالب إلى لجنته في صف غير صفه ومقعد غير مقعده، فتتعرض خصوصيته وأدواته إلى عبث الطلاب الآخرين الذين يمارسون النشاط في فصول ومقاعد زملائهم. وهنا أرى أن تتحول ساعة النشاط إلى حصة مستقلة كغيرها من الحصص، بحيث يمارس كل صف نشاطه على حده، فتكون حصة النشاط يومياً ولمدة حصتين دراسيتين (90 دقيقة) يتجه خلالها الطلاب إلى غرفة مخصصة للنشاط مجهزة تجهيزاً كاملاً لتحقيق الفائدة القصوى من تلك الحصة. ويمكن من خلال ذلك تقسيم النشاط إلى خمس حصص: -1 حصة النشاط العلمي: ويعد لها برنامج متكامل على مدار السنة ويشرف عليها متخصصون في المجالات العلمية والتقنية، يمارس خلاله الطلاب تفكيك الأجهزة القديمة وتركيبها وممارسة النشاطات العلمية المختلفة كعمل المجسمات والأعمال الإلكترونية من مصابيح وغيرها، كذلك تعليم الزراعة المنزلية والإسعافات الأولية والتعرف على عناصر البيئة الطبيعية إلى غير من النشاطات المحفزة لإبدعات الطلاب. ويمكن الاستفادة من حصة النشاط العلمي في زيارة أقرب المعامل والمصانع الصغيرة للمدرسة، وتستقبل قاعة النشاط العلمي الفصول تباعاً كل منها على حده. -2 حصة النشاط الأدبي: وتخصص لها قاعة تشتمل على الأجهزة الصوتية والمرئية، يمارس فيها الطلاب هواياتهم في إلقاء الشعر والكلمات وكتابة المقالات والقصائد، وتعلم أوزان الشعر والموسيقى، وذلك لإعداد الطالب بحيث يكون قادراً على التعبير عن ذاته من خلال الإلقاء ومواجهة الجمهور. كما تتاح لهم زيارة المؤسسات الثقافية القريبة من المدرسة، والالتقاء بالأدباء والشعراء المعروفين في مدينتهم، وفتح آفاقهم لممارسة هواياتهم المختلفة وتنميتها. -3 حصة النشاط الإجتماعي: وهي مخصصة لممارسة النشاط الإجتماعي بعيداً عن الحصص التقليدية التي تتابعها إلى الضغط النفسي والإرهاق، في حين أن النشاط الاجتماعي متنفس للطالب، وفي الوقت ذاته يعيد بناء علاقاته بزملائه من خلال العمل الجماعي بعيداً عن المنافسة الدراسية. كما يمكن ممارسة العمل الاجتماعي كالكشافة والعمل التطوعي، وبناء شخصية الطالب في تعامله مع الآخرين خصوصاً ما يتعلق بالتسامح في الطرقات وإكسابهم مهارة ضبط النفس والسلوك أثناء قيادة السيارات. ويمكن الاستفادة من هذه الحصة في التعرف على جغرافية المملكة والعالم العربي، بل والعالم بأسره، حسب المرحلة الدراسية، من خلال عروض أفلام تلفزيونية عن جغرافية المملكة والدول الأخرى. إضافة إلى ذلك يمكننا إطلاع أبنائنا الطلاب على تاريخنا والتاريخ بشكل عام بأساليب حديثة ومشوقة. ويمكننا أيضاً تنظيم زيارات قصيرة للمؤسسات الاجتماعية المحيطة وزيارة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة. -4 حصة النشاط التشكيلي: وهي نفس حصة الرسم مع إضافة جو من الانفتاح بعيداً عن التقليدية وإتاحة الفرصة للطلاب للتعبير عن مشاعرهم وتطوير إبداعاتهم التشكيلية ومنحهم مزيداً من الحرية في ممارسة هذه الهواية والعمل على تنميتها. -5 حصة النشاط الرياضي: وهي نفس حصة التربية البدنية يمارس خلالها الطلاب ما يرغبون من ألعاب رياضية سواء في القاعات الداخلية أو الساحات الخارجية ويتطلب ذلك وجود أكثر من معلم لهذا النشاط. وهنا ستنبثق عدة أسئلة تتعلق بقاعات النشاط المقترحة والحصص الزمنية المضافة. ولتحقيق ذلك يمكننا الاستفادة من الفصول الفائضة عن الحاجة أو بناء قاعات في أسطح المدارس لممارسة النشاط فيها، ويمكن تطبيق ذلك على عدة مراحل بحيث تكون البداية في المدارس التي بها فائض من القاعات كمرحلة تجريبية. أما بالنسبة للزمن الإضافي الذي سيترتب على ذلك فيمكن اختصار حصص اللغة العربية الثماني إلى ست، واختصار حصص القرآن الست إلى أربع، والاستفادة من الحصص الاجتماعية إضافة لحصص الرسم والتربية البدنية الموجودة أساساً ضمن الجدول المدرسي الحالي، مع مراعاة كل مرحلة حسب مقتضى الحال في الاستفادة من الحصص الكثيفة والتي يمكن تحقيق أجزاء منها في حصص النشاط، دون الحاجة إلى إطالة الدوام اليومي، حيث يفقد الطالب القدرة على الاستيعاب بعد الساعة الواحدة ظراً، خصوصاً وأن طقسنا حار صيفاً وشتاء.