تحولت جدة التاريخية من مكان يحتفظ بالتفاصيل الشاهدة على فترة زمنية ماضية، ومن مستودع لذاكرة الحياة التي كبرت على صوت الموج وفي الرواشين، إلى حلقة متصلة بين الماضي والحاضر، ونموذج على مقاومة النسيان والتجاوز إلى استيعاب تفاصيل جديدة وحياة طرية نبتت من وقت طويل وتستمر بالحياة. كل هذا التحول من التجاهل إلى التنبّه تحقق منذ عام 2018م لحظة إنشاء إدارة مختصة لتطوير المنطقة التاريخية في جدة بمسمى "جدة البلد" تابعة لوزارة الثقافة مكلفة بالعناية بالموقع، وزاد الدعم لهذه الخطوة في عام 2019 عندما وجّه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع بترميم 56 مبنى من المباني الآيلة للسقوط في جدة التاريخية بمبلغ 50 مليون ريال كمرحلة أولى. وتم تتويج هذا الاهتمام الكريم من القيادة الرشيدة بتحويل المنطقة التاريخية إلى برنامجٍ وطني سيعمل على إعادة تأهيل جدة التاريخية وتطويرها في المجالات العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية والبيئية، تحقيقاً لأهداف رؤية المملكة 2030 وبما يضمن تحويلها لمنطقة تراثية عالمية. إن الالتفاتة إلى جدة التاريخية هي في البداية تقدير للعناصر المعمارية الثرية، ورغبة في المحافظة على المكتسبات التاريخية والحضارية، واستجابة لما تشهده المملكة من نقلة نوعية في مجالات الفنون والثقافة، وتقديراً لتصنيف جدة البلد "التاريخية" كأحد مواقع التراث العالمي المعتمدة لدى اليونسكو، وامتداد في عمر المكان الذي يعود لأكثر من 500 سنة ويكتنز تصاميم فريدة وأشكال فنية معمارية مبتكرة وجاذبة، ولأهمية المنطقة التي تنبض بالحياة ويغلب عليها الطابع الاجتماعي المتنوع والمتناغم.إن واقع جدة التاريخية يتضح عبر ملاحظة وجود 70 ٪ من المنازل التراثية الآمنة حتى الآن، في حين يستخدم 30 ٪ منها كمباني تجارية، منها ما يتم شغلها لأغراض عمل محددة ضمن تراخيص قانونية أو غيرها، وفي الوقت نفسه تستمر الجهود المبذولة في هذا المشروع التطويري لإعادة إحياء المنطقة من خلال ترميم المنازل والطرقات الفرعية والعامة والبنية التحتية ضمن جدول زمني مفتوح نسبياً، ولتجنب تعطيل أي نشاط تجاري لم يتم إغلاق المساحات التجارية الكبرى في آنٍ واحد ولكن وفق إجراءات مدروسة محددة للحد من التدخل العشوائي، ومن دون الحاجة لمغادرة السكان منازلهم. يحقق مشروع جدة التاريخية مرونة ملفتة تتمثل في أنه مع الحفاظ على تراث المنطقة وأهميتها إلا أنه يواصل توفير بيئة مناسبة للعيش، يستقبل الزوار في فعاليات ثقافية وفنية وسينمائية في الوقت الذي يستمر المشروع بالعمل على الترميم والعناية بالمكان، وكأنما مشهد مشروع "جدة البلد" فعالية مجتمعية للاطلاع بشكل ملموس على كيفية حفظ التراث ورسالة للعناية بكل المكتسبات لكافة الأجيال، عبر خطة إدارة جدة التاريخية لتنفيذ خطة الترميم تدريجياً مع منح الأولوية للمباني المتهالكة جداً، على اعتبار أن المباني المهددة بالانهيار ضمن المباني الأثرية فإنه يتم دعمها وترميمها لحفظ الإرث الثقافي وتفادي مخاطر السلامة، مع وضع عناية خاصة للكيان البشري المقيم في المكان، والتأكيد على أن الترميم والتطوير جزء من المشروع. ولاحقاً سيكون هناك جانب مركز على تعزيز المكانة التاريخية لمنطقة جدة التاريخية بكل تفاصيلها ومكوناتها ونشاطاتها الحياتية والترفيهية والفنية والتجارية. واليوم وفي ظل هذا الواقع، ومع تنامي أهمية الموقع التاريخية والحضارية، وبعد تسجيله في قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، فإن توجه الدولة لحماية المنازل التاريخية في جدة البلد وصيانتها من التدهور وتأمينها للأجيال القادمة، يؤكد أن فكرة العناية بالإرث التاريخي جاءت من خلال خطة متكاملة لمشروع جدة التاريخية، وبرؤية طموحة تسعى إلى تحويل البلد التاريخية إلى منطقة حضارية عالمية مع المحافظة على إرث المنطقة وتنوعها الثقافي، انطلاقاً من رؤية المملكة 2030 التي اعتنت بالمكتسبات الحضارية للمملكة ومنها مواقع التراث العالمية المسجلة في اليونسكو.