إذا كان روح العمل هو الإخلاص، فينبغي للمسلم أن لا يستصغر عمل برٍّ يقرِّبه إلى ربِّه، وليجتهد في أن يجاري قلبه جوارحه في العمل، فكم عملٍ يسيرٍ قارنه إخلاصٌ، فأسنى الله لفاعله أجراً عظيماً.. لكل شيءٍ مقومات لا يعتدُّ به إذا خلا منها، وتتفاوت درجته بتفاوتها، فهي له كالروح للجسد، ومن مقومات الأعمال الإخلاص، فإذا خلا منه العمل كان وجوده كعدمه، وبقدر نصاعة الإخلاص وعمقه يكون العمل أحسن، وكلما كان العمل آكد كان الإخلاص فيه أوجب، وكان عدم الإخلاص فيه أخطر، فمثلاً: آكد الأعمال التوحيد، والإخلاص روحه، حتى إن كلمة التوحيد تسمى "كلمة الإخلاص"، وإذا كان الإخلاص بهذه الأهمية فمن المهم معرفة أحواله، ومعالجة ما يعلق بالأذهان من الأخطاء حوله، وذلك من خلال النقاط التالية: أولاً: الإخلاص عملٌ قلبيٌّ لا يطّلع عليه إلا الله تعالى، فلا يسوغ ما اعتاد عليه بعض الناس من تعقب نيَّات الآخرين، ومحاولة التعكير عليهم ووصفهم بأنهم غير مخلصين، وقد نعى الله على المنافقين تنقيبهم عن مقاصد الناس ونياتهم، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ، كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} متفق عليه، فليحذر المسلم من أن يفسِّر إحسانَ غيره بما يشينه، ويصرفَه عما يتبادر منه، فالأصل السلامة، والجادَّة التي لا ينبغي أن نحيد عنها هي تحسين الظنّ بالمسلم، وأن نحكم بالظواهر، ونَكِلَ إلى الله السرائر، ولا داعي إلى تجاهل الظاهر بناءً على احتمال أنه خلاف الباطن، وقد حصلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واقعة تعتبر درساً في هذا الباب، فعن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قال: (بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ) متفق عليه، واللفظ لمسلم. ثانياً: إذا كان روح العمل هو الإخلاص، فينبغي للمسلم أن لا يستصغر عمل برٍّ يقرِّبه إلى ربِّه، وليجتهد في أن يجاري قلبه جوارحه في العمل، فكم عملٍ يسيرٍ قارنه إخلاصٌ، فأسنى الله لفاعله أجراً عظيماً، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ» متفق على معناه، واللفظ لمسلمٍ، وهذه المرأة لم تجد بعد الطلب إلا ثلاث تمرات فأطعمتها ابنتيها، حتى شقّت بينهما تمرة رفعتها إلى فيها، وقد لا يجد الإنسان شقّ تمرة ينفقه، فيثاب على كلمةٍ طيبةٍ أسعد بها أخاه، ففي حديثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)، وإذا كان المخلص ينال مثل هذا الأجر العظيم بتمراتٍ، أو بكلمةٍ طيبةٍ، فمن باب أولى أن ينال الثواب الجزيلَ من بَسَطَ يده بالبرِّ المدرار، (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً). ثالثاً: لما كان الإخلاص روح العبادات كان مظنةً لأن يوسوس فيه الشيطان للمرء؛ ليلبس عليه أمره، فمن تلبيس إبليس فيه على الإنسان أن يحمله على ترك العمل الصالح خوفاً من الرياء، فيقول في نفسه مثلاً: لن أسارع إلى المسجد خوفاً من الرياء، لن أكثر القراءة في المصحف خوفاً من الرياء، فإذا أحسَّ الإنسان بشيءٍ من هذا فعليه أن يدافعه، وأن يعمل ويسارع إلى العمل الصالح متحرِّياً الصدق والإخلاص، وكذلك إذا كان في عملٍ صالحٍ فوسوس إليه الشيطان أن اقطع عملك هذا حتى لا تكون مرائياً فليكمل عمله وليجوده؛ ففي ذلك مراغمة للشيطان، وعن بعض السلف أنه قال: (إذا أتاك الشيطان وأنت في الصلاة فقال: إنك مراءٍ، فزدها طولاً)، بل إن هذا العملَ الصالحَ الذي يخشى أن يطلع عليه الناس فيكون رياء قد يقتدى به فيه، فمن ابتدأ عملاً صالحاً فاقتدى به غيره فله مثل أجر المقتدي.