نحو "الرياض" يممّ الاقتصاد العالمي وجهه بحثاً عن اعتدالٍ يقومّه أو كلمة فصل تهديه، فعلى مدى يومين تدارست المملكة وبقية دول العالم الفرضيات الممكنة للخروج من أزمة انفلات صنابير النفط في أسوأ الظروف المرافقة اقتصادياً، بالفعل كانت أزمةً عسيرة! قهرت شركات الصناعة بالعالم ولامست موازنات الدول بالتعديل والترشيد والمراجعة، لأزمة الطاقة أبعادٌ مختلفة تم التنبّه لها بجدّية من قبل دول العالم وغالباً المنتجة منها للخام، أهمها أن المملكة مثّلت وما زالت وستبقى خريطة الباحث عن نقطة اتزّان أسواق الطاقة، هذا الدور الذي صعد عليه الكثير من منتجي الخام محققين بذلك قفزات هائلة مدفوعةً بالتزام عددٍ من المنتجين بالمسؤولية الدولية تجاه الاقتصاد العالمي المناطة بهم، كما صعدت عليه موازنات الدول التي بُنيت على موثوقية الالتزام والمسؤولية السعودية في تحقيق العدالة لكلٍ من منتجي الخام ومستهلكيه، في ظلّ انسلاخ بعض المنتجين بالصناعة من مسؤولية الحفاظ على الاقتصاد العالمي في حالة من التعافي المستديمة. 33 يوماً تزيدُ أو تنقص هي الفترة التي فقدت فيها صناعة النفط العالمية - بحقّ - الدور السعودي في إدارة أسواق النفط، وقد كانت كفيلة باستغلاق الحلول جميعها أمام صناعة النفط بالعالم، مسببّاتٌ وتبعات أحاطت بالصناعة معظم شهر مارس ومطلع أبريل الجاري، ففي ظلّ الجهود السعودية المستمرة لتخفيف حدّة المؤثرات بأسواق النفط وتوحيد الجهود برزت الأدوار الراغبة في التوجّه نحو السياسات النفطية المستقلّة غير المنسقّة، ما حدا بالمملكة إلى النزول عند هذه الرغبات ومتابعة تطورات الأسواق، فالعودة يقيناً لن تكون بعيدة لكثيرٍ من الأسباب، منها دور عوامل التأثير السلبية في أسواق النفط وأنها لم تتعافَ تماماً من تبعات الحرب التجارية بين الولاياتالمتحدة الأميركية والصين طيلة العام المنصرم 2019م، لتدخل في حربٍ جديدة مع الطلب العالمي على النفط منذ مطلع العام الجاري 2020م، ما أدى إلى تراجع أسعار الخام بشدّة طيلة شهري مارس وأبريل للعام الجاري عقب استقبال الأسواق نذُر تخارج المنتجين من اتفاق OPEC+، هذا المسار الذي يؤكد افتقاد صناعة النفط العالمية لأي عوامل دعم إيجابية بتاتاً ساهم في تنامي حالة الارتباك بالصناعة ككل. التوجّه العالمي الكبير الذي أَمّ "الرياض" ناشداً الحلول العاجلة ليس لقطاع النفط فقط بل للاقتصاد العالمي الذي يئن تحت سطوة "كورونا المستجدّ" كان ردّة الفعل المعاكسة لافتقاد الدور السعودي بالأسواق، فعلى الرغم من تعددية المنتجين الذي يعدّون "كبار الصناعة العالمية"، إلا أن التوجّه طلباً للحلول العاجلة كان صوب "الرياض" لمعطياتٍ كثيرة تعدّ من أساسيات دعائم الاقتصاد العالمي، أهمها التفرّد السعودي في تأسيس أنجح السياسات النفطية في مجابهة تحديات الصناعة النفطية وهي الجهود الجماعية المنسّقة التي غدت لاحقاً ثقافة رائجة في أسواق النفط (سياسات تقييد الإنتاج) التي تقوم على توزيع تكاليف اعتدال الأسواق العالمية بالتساوي على منتجي الخام المشاركين بمردود اقتصادي إيجابي يحقق الحدّ الأدنى من العوائد المرجّوة - في أسوأ الظروف - للدول المنتجة ضمن إطار سعري غير مكلف للمستهلكين ومحفزٌ لاستثمارات القطاع بالعالم، فنشاط هذه الدوائر الإيجابية المرتبطة ببعضها تعدّ عوامل دعم فاعلة في الحفاظ على تعافي الاقتصاد العالمي ككل، لذا فجميع منتجي الخام بالعالم يدركون تماماً أن الالتفاف حول السعودية - كونها النقطة المركزية الفعّالة لقطاع النفط بالعالم - هو الأسلم لمواجهة هكذا ظروف، واللحاق بمنطقة الاتزّان التي تضاعفت فاتورتها المادية والزمنية كثيراً منذ مطلع مارس الماضي إلا أنها بجميع الأحوال قد تكون ممكنة. في الوقت الحالي تشهد الأسواق النفطية والسواد الأعظم من منتجي الخام بالعالم إجماعاً دولياً ساحقاً يدعم حذو الجميع السياسة النفطية السعودية؛ لثبات أسس مسؤوليتها التي تنتهج دوماً دعم الاقتصاد العالمي وتبنّي مبدأ الحفاظ على معدلات التعافي الإيجابية فيه بمختلف ظروف وتقلبّات الأسواق، وإلى حين كتابة التقرير أصبحت صورة الجهود الدولية التي تقودها "الرياض" لدعم أسواق النفط شبه مكتملة، غير أنها بحاجة إلى انضمام ومشاركة عددٍ من منتجي الخام بالعالم الذين قد يكونون بحاجة إلى القليل من الوقت لترتيب دورهم وصياغته في المنظومة الدولية ككل، إلا أن الضرورة تحتّم مشاركتهم مهما اقتضى ذلك الوقت من انتظار، والمؤكد أن حالة الارتباك التي مرّت بها صناعة النفط العالمية خلال الأيام القليلة الماضية أفرزت تعاطياً مشوّهاً وتغيرات الصناعة من قبل بعض منتجي الخام في دول متفرقة، أوضح حجم القصور الكبير الذي يكتنف بعض أرجاء الصناعة من حيث الاضطلاع بمسؤولية المُنتج تجاه الصناعة والاقتصاد الوطني والعالمي، فإلقاؤهم اللوم على السعودية في حدوث هذا الخلل الذي تمرّ به الأسواق حالياً يوضّح الدور السلبي غير المسؤول لمثل أولئك المنتجين بالصناعة، التوجّه السعودي الأخير لمراجعة السياسيات النفطية الوطنية أظهر حجم الخلل الكبير الذي تعاني من الصناعة النفطية العالمية وعدم ظهوره بشكل واضح التأثير لكبر حجم الدعم الذي تقدمّه "الرياض" للصناعة العالمية، وأوضح الأداء السلبي عكسياً في الأسواق مقابل الجهود التي تقدمها منظمة OPEC والأعضاء الآخرون من خارجها OPEC+، حيث يأتي هذا الدور السلبي كنتاجٍ لأداء بعض منتجي الخام بالصناعة الذي يوضّح افتقاداً تاماً للمسؤولية المناطة بالجميع تجاه الاقتصاد العالمي، لذلك فالخلل الذي تعرّضت له صناعة النفط العالمية - باعتبار تأثير الطلب - ليس نتاجاً للسياسة النفطية السعودية، بل هو حالة الانكشاف التام لأسواق النفط على كامل التأثير السلبي لبعض منتجي الصناعة، وأن الدور السعودي يساهم في استمرارية ثلاثة عوامل دعم إيجابية بالأسواق من خلال حصص التقييد الطوعية يُضاف إليه الالتزام الأعلى من ذلك حسب البيانات التاريخية للصناعة واتفاقيات الدعم، الأول الحفاظ على ثبات فاعلية التأثير الإيجابي في الالتزامات الدولية مع منتجي الخام وتحقيق نتائج أداء تعدّ الأعلى في تلك المجموعات كذلك تخفيف وطأة التأثير السلبي لعددٍ من منتجي الخام بالعالم، وتغطية الأسواق دون انكشافها على تأثير تلك الأدوار، والواضح أن المرحلة الحالية أوضحت الدور الحقيقي لتأثير جميع المنتجين بالأسواق ووضعهم أمام مسؤولية تلك الأدوار، فعلى المستوى الفنّي بالصناعة قد تكون نقطة تحوّل لجميع المنتجين. يمثّل الاتفاق الأخير المطّور ل OPEC+ تخفيفاً وليس دعماً لآثار فايروس كورونا المستجدّ بأسواق النفط، لذلك من المهم جداً للصناعة النفطية تقنين التوقعات خلال العام الجاري 2020م، فقد لا تكون هنالك بوادر للتعافي المأمولة إلا في العام المقبل أو نهاية العام الجاري، حيث أسهم الانتشار المفاجئ والسريع لإجراءات الحماية الصحية في دول كثيرة بالعالم إلى انخفاض معدلات الطلب العالمي على النفط التي بلغت في أفضل التقديرات المتفائلة 18 مليون برميل يومياً، أي ضغوطات كبيرة يساندها فوائض نفطية سابقة، ما يجعل التقديرات خلال هذا العام محصورة في نجاح جهود المنتجين بمنع حصول الأسوأ، ما مواقف المنتجين حالياً؟ المؤكد أن هنالك تقاسماً لضغوط السوق النفطية ما بين منتجي الخام بحسب القدرة الإنتاجية لكل دولة، غيرَ أن المملكة العربية السعودية تعدّ الدولة الوحيدة التي تمكنّت من تخفيف حدّة حصّتها في اتفاق الخفض؛ نتيجةً لمرونتها النفطية التي تميزّها عن بقية منتجي الخام بالعالم، حيث تمتلك عدّة مناطق تستطيع التأقلم معها وتمكنّها من التعامل وكافّة الظروف الاقتصادية العالمية، وهذه المساحة تعدّ مرونة نفطية تقدّر ب 2.558 مليون برميل يومياً قياساً بالمعطيات الحالية وهي المساحة بين متوسط إنتاج المملكة في العام 2019م البالغ 9.742 ملايين برميل يومياً والطاقة الإنتاجية القصوى عند 12.3 مليون برميل يومياً، فالمتابع لأداء المنتجين خلال الربع الأول من العام الجاري يجد أن جميع المنتجين في حالة خسارة حقيقية لجزء من حصص الإنتاج وسط الضغوط المتتابعة على الطلب العالمي باستثناء المملكة التي استطاعت تحقيق بعض المكاسب وسط هذه الظروف عالمياً، والصعود بمستويات الإنتاج لطاقتها القصوى في ظلّ خرق اتفاق OPEC+ من قبل منتجين آخرين، هذا التحرّك حقق مكاسب من حيث انتقال نقطة المفاوضات أي اتفاق دولي قادم - لإدراكها التام بوصول الأسواق إلى هذه التسوية - إلى أعلى نقطة إنتاجية أو دونها بقليل، الأمر الذي حقق بالفعل مكاسب في أرقام بعد التعديل الطوعي، وبمعنى أكثر إيضاحاً استطاعت المملكة امتصاص 1.250 مليون برميل يومياً من حصة الخفض المقررة قياساً بمتوسط إنتاجها في العام 2019م، هنالك عدّة مكاسب أخرى معنوية تُحسب للمملكة من خلال النتائج التي أفرزتها أزمة الطاقة منها تأكيد الموقف السعودي الداعم لتعافي الاقتصاد الدولي والحفاظ عليه عبر سياسات الإنتاج المعتدلة، كذلك الوضوح الحقيقي لمسار تأثير كل منتج بالصناعة النفطية بما يجعل المنتجين ذوي التأثير السلبي أمام حقيقة دورهم ومسؤوليتهم في الاقتصاد الدولي، من المكاسب كذلك التي تُحسب للمملكة تعزيز ثقة المجتمع الدولي فيها كمرجعية إيجابية معتدلة في أسواق النفط يمكن الوثوق بها مقارنةً ببقية منتجي الخام. القراءة الحالية للأسواق تشير إلى أن فاتورة توازن أسواق النفط تضاعفت بالفعل، ولا بد من تضحية جميع المنتجين وتكاتف جهودهم أما تبعات جائحة كورونا في الأسواق، فالتوصّل الحالي لاتفاق OPEC+ يشير إلى ثلاث مراحل لسياسات التقييد متفاوتة القوّة تجاه هذه الجائحة، الأولى تقييد 10 ملايين برميل يومياً لمدة شهري (1 مايو - 30 يونيو) للعام الجاري، المرحلة الثانية تخفيف القيود من 10 ملايين برميل يومياً إلى 8 ملايين برميل يومياً والعمل بها لمدة 6 أشهر (1 يوليو - 31 ديسمبر) 2020م، ثم زيادة تخفيف هذه القيود وصولاً إلى تقييد 6 ملايين برميل يومياً لمدة 16 شهراً (1 يناير 2021م - 30 أبريل 2022م) ويتم احتساب كل هذه التخفيضات ل OPEC+ من إنتاج الدول في أكتوبر 2018م، مع التنبّه إلى عدم تطابق الأرقام المرجعية المعتمدة حالياً مع تلك التي تم اعتمادها نهاية العام 2018م لاتفاق خفض 2019م، حيث إن هنالك ثلاث دول لم تكن أرقامها المرجعية تحسب على أساس أكتوبر 2018م وهي الكويت وأذربيجان وكازاخستان، فالكويت وأذربيجان كانتا أساس مرجعي سبتمبر 2018م أما كازاخستان فأساس مرجعي نوفمبر 2018م، وهي الاختلاف فقط في مرجعية الإنتاج للدول في الاتفاق الحالي الذي سيتم العمل به مطلع مايو المقبل، بالإضافة إلى جهود المنتجين الآخرين من خارج OPEC+ كالولاياتالمتحدة وكندا والنرويج والبرازيل التي لم يتضّح حجم دورها في اتفاق تقييد الإنتاج الدولي إلى الآن، وعلى العموم قد لا تصبّ التوقعات في صالح الأسعار خلال الجاري بالصعود ضمن مستويات ملحوظة، إنما الحفاظ عليها فوق مستوى ال 25 أو 22 دولاراً في الغالب أي تخفيف وطأة انتشار الإجراءات الاحترازية ولا يمكن أن تذهب توقّعات الصناعة النفطية إلى أكثر من ذلك في ظل الضغط المتواصل على الطلب النفطي، وقد يكون الانفراج الجزئي لصالح أسعار النفط بعيد منتصف الربع الجاري أو مطلع الربع المقبل إن كانت معطيات التأثير هي ذاتها القائمة حالياً، على الرغم من تداول الأسواق لأنباء مفادها بلوغ "فيروس كورونا" ذروته، إلا أنها ما زالت تفتقد الدعم والتأكيد من قبل المنظمات الدولية المختصّة في ذات الشأن.