نانسي بيلوسي تعد المرأة الحديدية في الولاياتالمتحدة الأميركية؛ فقد حققت كامرأة نجاحات غير مسبوقة على مستوى العمل السياسي، وهذا يعد أمراً غير مستغرب على هذه المرأة ذات الأصول الإيطالية، فقد كان والدها المنتمي للحزب الديمقراطي عضوًا في مجلس النواب منذ العام 1939، ولمدة أربع دورات، أما والدتها فكانت ناشطة أيضًا في المجال السياسي. نانسي بيلوسي مشت على خطا والدها حيث فازت بمقعد داخل مجلس النواب في عام 1987، وبعد هذا العام بدأت سيرة النجاح حيث تمكنت من قيادة الحزب الديموقراطي داخل مجلس النواب كرئيسة الأقلية لفترتين (2003-2007 و2011-2019)، وهذا يعد إنجازاً غير مسبوق! بعد خسارة الجمهوريين الأغلبية داخل مجلس النواب أصبحت نانسي بيلوسي رئيسة الأغلبية داخل المجلس، لتصبح أول امرأة في تاريخ أميركا تتولى هذا المنصب الذي يعد صاحبه ثالث أهم شخصية داخل الولاياتالمتحدة الأميركية؛ حيث يحق لها أن تتولى منصب الرئاسة في حال سقط الرئيس الأميركي ونائبه! هذه المرأة الحديدية لم تتوقع أن المستقبل يحمل تحديات من شأنها تمزيق حاضرها ومستقبلها السياسي، فقد تفاجأت في قمة زهوها السياسي بخصم ذي خصائص غريبة على المشهد السياسي الذي ألفته خلال التسعة والعشرين سنة الماضية. هذا الخصم تبنى سياسات يمينية محافظة، على نسق لم يسبق له مثيل؛ حتى أنه -بحسب المراقبين- تفوق على رونالد ريغان، الذي كان يعد أكثر رئيس أميركي محافظ، هذا الخصم هو دونالد ترمب الرئيس الأميركي الخامس والأربعين. كما ذكرنا ترمب نجح في تبني تشريعات اقتصادية وسياسية يمينية متشددة لا يقبل بها المنتمون للحزب الديموقراطي، وفي مقدمتها نظام الهجرة الذي يحد من تدفق المهاجرين بشكل غير مسبوق، ومازال يعمل على اتخاذ إجراءات في هذا الباب من شأنها القضاء على المهاجرين غير الشرعيين إلى الأبد بعد بناء الجدار على الحدود الجنوبية، كذلك النظام الضريبي الذي يضع بعين الاعتبار خفض الضريبة وبشكل غير مسبوق على الشركات الضخمة مثل أبل، بالإضافة إلى سياسات ترمب التي تسعى إلى تقليص أفرع الحكومة، من خلال التخلص من عدد كبير من المؤسسات الحكومية البيروقراطية غير الفاعلة والمعززة للهدر بحسب رؤية ترمب، وهذا لا يتسق مع فكر الديموقراطيين؛ ففي عهد أوباما زاد التوظيف 32 % داخل القطاع الحكومي. وأخيراً وليس آخراً تمكن ترمب من تعيين 158 قاضياً، منهم اثنان في المحكمة العليا، وهذا يعد إنجازاً تاريخياً لم يسبق لأي رئيس أميركي تحقيقه من قبل ضمن نفس الإطار الزمني. هذا النجاح في تطبيق سياسات يمينية متطرفة كان كفيلاً بإيقاظ الغول اليساري المتطرف داخل الحزب الديموقراطي؛ ما أحدث انقساماً داخل صفوف الحزب، شكّل معسكرين: الأول مازال يؤمن بالمناورات والنجاح من خلال تقديم مشاريع وتشريعات من شأنها كسب ثقة الناخب، هذا المعسكر تقوده نانسي بيلوسي. أما المعسكر الآخر: فيرى أن الوقت ضيق ويجب التحرك بشكل سريع للتخلص من ترمب قبل انتخابات 2020؛ لكي لا يتمكن من تحقيق كل مشاريعه، وبالتالي يجد الحزب الديموقراطي نفسه أمام واقع تغييره يتطلب عقوداً من الزمن، هذا المعسكر يمثله آدم شيف، وجرد نادلر، وجميع الأعضاء الجدد من الشباب، أمثال سيث مولتون، وإلهان عمر، وألكساندريا أوكاسيو. كورتيز التي تم تأنيبها تأنيباً لاذعاً خلال البرنامج العالمي اليساري (ذا فيو) على قناة (أيه بي سي)؛ بسبب هجومها المتكرر على نانسي بيلوسي. كان من أبرز الملفات التي حدث انقسام حولها هي فتح تحقيق ومساءلة ترمب ومحاكمته، نانسي بيلوسي كانت تقف ضد هذه الخطوة، وطالبت أعضاء الحزب بعدم تكرار خطأ الديموقراطيين عندما حاولوا عزل (بيل كيلينتون) فانقلب السحر على الساحر بعد تبرئته آنذاك. هذا النداء والمطالبة من نانسي لم تجد آذاناً صاغية داخل الحزب؛ لذلك أجبرت على الخضوع والتنازل عن موقفها والاصطفاف خلف المعسكر المتطرف. كانت تلك المعركة بمثابة الدليل على فقدان نانسي بيلوسي القدرة على قيادة الحزب، هذا الواقع تطلب من نانسي أن تصل إلى اتفاق وتسوية تحفظ ماء وجهها بعد أن كانت تطمح بقيادة الحزب إلى أجل غير معلوم. هذا الاتفاق الذي أبرمته نانسي مع مجموعة من الديمقراطيين في مجلس النواب -منهم من ذكرنا أسماءهم- قد تعهدوا بالتصويت ضد الزعيم الديموقراطي منذ فترة طويلة في انتخابات رئيس مجلس النواب الشهر المقبل. الاتفاق يمكن نانسي بيلوسي من قيادة الحزب حتى 2022 فقط، ويحصر فترة القيادة في ثلاث دورات فقط، ويمكن إضافة دورة رابعة في حال صوّت ثلثا أعضاء التجمع. وفي هذا السياق قالت بيلوسي في بيان لها: «خلال فصل الصيف، أوضحت أنني أرى نفسي بمثابة جسر للجيل القادم من القادة، وهو اعتراف بمسؤوليتي المستمرة في التوجيه ودفع الأعضاء الجدد إلى مناصب. السلطة والمسؤولية في مجلس النواب الديمقراطي». نانسي بيلوسي كانت ترغب بإعادة أمجاد «سام ريبورن» الذي كان أطول من خدم في هذا المنصب، وذلك في المدد بين (1940-1947 و1949-1953 و1955-1961) وتحقق ما لم تتمكن امرأة في التاريخ من تحقيقه، لكن ترمب الذي لديه قدرة على جعل خصمه عدواً لنفسه كان له رأي آخر، هذه القدرة تمكنت من إغراق نانسي في وحل الغضب والانتقام، والإقدام على المحظور وهو: تمزيق خطاب الاتحاد، الذي يعد ملكاً لمجلس النواب؛ وبالتالي ملك للشعب الأميركي، وثّقت فيه إنجازات وتضحيات لأفراد من الشعب الأميركي لايحق لكائن من كان أن يحولها إلى قصاصات من الورق مصيرها مكب النفايات! تمزيق خطاب الاتحاد بما يحتويه من مضامين يعد إعلان هزيمة مبكّرة لنانسي بيلوسي على مستوى قيادة الحزب الديموقراطي، وعلى مستوى محافظة الحزب على الأغلبية داخل مجلس النواب 2020، واعتراف بأن ترمب تمكن من تمزيق تاريخها ومستقبلها السياسي!