يبدو أنه كلما ازداد الإنسان في التعمق وممارسة المهنة واكتسب الخبرة وانغمس في التجارب من خلال الاحتكاك بمصادر العلم والمعرفة كلما قل الاهتمام بالمنجز العلمي والمعرفي المتراكم والمختزن في ذاكرته، ربما نحن من البلدان القليلة التي تقيس التميز والعطاء والإنتاج على أساس العمر، وكلما تقدم المجد والمجتهد والمجدة والمجتهدة في العمر كلما كانت النظرة القصيرة له بالمرصاد طبقا للقياس المجحف وغير الموضوعي آنف الذكر، هذا الواقع المؤلم هو سباحة عكس التيار إذ إنه من المفترض والبدهي ارتفاع القيمة المهنية بمفهومها الشامل لصاحب الخبرة وهذا هو المعيار الحضاري السليم والخلاق، في حين أن الأمم لم تدرك التطور والنهضة العلمية والمعرفية بمعزل عن الاتكاء على الخبرات المتراكمة وتقديم عصارة التجارب المختلفة في المعامل والمختبرات والقاعات وقودا للأجيال المتعاقبة، بل إن قيمته المعنوية ترتفع ويجدون الاحترام والتقدير والاهتمام والرفع من مكانتهم نظير أثرهم الإيجابي المؤثر في طريق النهضة والتطور المعرفي في جميع المجالات، وبالتالي فإن النظرة المعنوية الخانقة للخبرات الفذة يجب أن تتغير في الوعي الجمعي لإحقاق الحق وعدم بخس الناس أشياءهم، وفي سياق متصل فإن تقدير سن التقاعد يجب أن يعاد النظر فيه، وأن ينظر في تمديد سن التقاعد، لاسيما أنه عندما سنت أنظمة التقاعد وفقا لمعطيات قد تبدلت في الوقت الحالي أخذا بالاعتبار الجهد البدني، بيد أنه وفي ظل التطور الذي تعيشه البشرية تقلص وبشكل كبير الاعتماد على الجهد البدني في كثير من الأمور، وبات الاتكاء على الجهد الذهني والمحصول المعرفي هو الإضاءات التي تنير الطريق للأجيال، وغالبا ما يكون الذهن آخر ما يشيخ في الإنسان، فمن الهدر التفريط بطاقات ذهنية مفعمة بالتجارب وخوضها معترك الجوانب العلمية والمعرفية، أضف إلى ذلك التطور الطبي المذهل في تعزيز القدرات الذهنية والبدنية على حد سواء والتي انعكست إيجابا سواء على مستوى متوسط العمر، وإذا كان سن التقاعد ستين عاما هجريا فإنه يعني ثمانية وخمسين عاما حسب التاريخ الميلادي في حين أن الدول المتقدمة والتي حققت الاكتفاء الذاتي في كافة المجالات تحدد سن التقاعد خمسة وستين عاما ميلاديا، بل وتولي هذا الجانب مزيدا من العناية والاهتمام ناهيك عن أنشطة المتقاعدين في تلك الدول وانخراطهم في الجمعيات العلمية المختلفة كأعضاء فاعلين، فكيف الأمر بالدول النامية والتي تسعى جاهدة في طرق سبل النهضة الصناعية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فضلا عن ذلك إسهام هذا الأمر في العناية بجودة الحياة والرفع من الحالة المعنوية بشكل منصف لما قدمه ويقدمه المحال على سن التقاعد، فكيف يكون شعور من أحيل للتقاعد وهو بكامل طاقته الذهنية بل والبدنية ليمسي أسيرا للإحباط والعزلة.. فهل حان الوقت للنظر في تمديد سن التقاعد؟.