في المدن العتيقة، مترامية الأطراف، من الطبيعي أن تكون أفكار وتطلعات المرحلة التي بُنيت بها تلك المدن هو المسيطر على هويتها، تصميمها، طرقها، وأحيائها، ولطالما كان هاجس التخطيط الجيد هو الشاغل لكل من يريد أن تكون المدينة التي يتولى زمام أمورها في الجانب التنظيمي والتخطيطي هي الأكثر تميزاً، فكانت التجارب تترا في مدننا المختلفة، حتى أصبحت المدن الكبرى تئن تحت وطأة التقادم، وتباين وجهات نظر المسؤولين الذين خططوا لها في كل مرحلة، فيما خرجت محافظات صغيرة بصورة فاتنة كالجبيل مثلاً. لكن أحد أكثر الأفكار التي تحدث عن مدننا جرأة كانت فكرة الأنسنة، والتي وضعت للإنسان اعتباراً عند تخطيط الشارع والحي، بعدما سيطرت المركبة على المساحات الأعظم من طرقنا وساحاتنا. وحسب دراسات محلية، فإن معدل نصيب الفرد من الساحات والأماكن العامة ارتفع من 3.48 م2 للفرد العام 2015 إلى 4.14 م2 للفرد العام 2017، حيث تم استحداث وتطوير 20 مليون م2 من المتنزهات والحدائق والأماكن العامة بكافة المدن بالمملكة، لتبلغ مساحة الحدائق العامة والمتنزهات الإجمالية أكثر من 104 ملايين م2 في مدن المملكة، كما تمت زراعة أكثر من 4 ملايين شجرة. حقيقة، فإن أول من سمعنا منه مصطلح أنسنة المدينة، ومن شرع فعلاً في العمل على أنسنة مدينة الرياض كان الأمين السابق لأمانة منطقة الرياض، سمو الأمير عبدالعزيز بن عياف، وقد جاهد الرجل في سبيل ذلك على الرغم من الصعوبات التي واجهت المشروع، فأنشأ الحدائق، ومضامير المشي في أغلب الأحياء، وجعل للإنسان مساحة على الرصيف بعد أن كان الرصيف لا يتسع لمرور شخصين تقابلا، فكانت الرياض حينها تقترب من الإنسان كثيراً بشكل لافت، فالرجل كان أميناً لمنطقة الرياض من 1418ه حتى 1433ه، وهي الفترة التي شهدت المشروعات التي أكدت على الأنسنة في المدينة الكبيرة. ويشرح كتاب بن عياف (الرياض نموذجاً) بعد نظر الرجل في استشراف مستقبل أصبح اليوم حاضراً، يكون الإنسان في المدن الكبيرة بحاجة ماسة إلى الحركة بأمان بعيداً عن خطر المركبة المستمر. ولعل أكثر ما يعيب تخطيط وتطوير المدن لدينا، أنه بتغير المسؤول، تتغير الخطط، والتوجهات، ويبدو أن مشروع أنسنة العاصمة قد توقف بعد رحيل الأميرعبدالعزيز بن عياف من الأمانة عام 2012، إلا أن تعيين نجله سمو الأمير فيصل بن عياف أميناً لمنطقة الرياض، يشيع الأمل بأن يكون المضي قدماً في أنسنة الرياض هو أحد اهتمامات الأمين الجديد، فالناس وفي ظل الوعي المتنامي بالصحة، ومحاربة السمنة، والأمراض المزمنة، يحتاجون مساحات لهم، فكل حي بحاجة إلى ساحة بها مضمار، وجلسات للعائلات كي تتنفس أحياؤنا، ويتنفس ساكنوها، وكأن لسان حال سكان العاصمة يقول أنسنها يا سمو الأمين.