عندما تحدثت عن العمارة السلمانية، لم أكن أقصد بها منتجاً حدث في فترة تاريخية معينة في مدينة الرياض، بل كنت أنظر للمفهوم الفلسفي وراء القرار التاريخي في منتصف السبعينات وما تبعه من قرارات غيّرت أسلوب التفكير، ولم تربط الأفكار بمصدر تاريخي معين إلا من حيث خصوصية المكان فقط.. بعد مداخلتي في برنامج معالي المواطن يوم الثلاثاء الفائت حول "العمارة السلمانية"، بمناسبة الذكرى الخامسة للبيعة، علق البعض على هذا المصطلح، وكأنه مصطلح جديد في العمارة، بينما ذكر الزميل المعماري فؤاد الذرمان أنه لم يعتد المؤرخون العرب نسبة العمارة للملوك مثل ما يفعل الغرب، فهناك العمارة الفكتورية والإليزابيثية والجورجية وغيرها من طرز ميزت عهود الملوك في إنجلترا وغيرها. كان ردي واضحاً هو أن العمارة السلمانية ليست "طرازاً"، ومن يعتقد أنها طراز لم يحالفه الصواب بل هي رؤية وتوجه في التفكير، وقد أكدت لهم أن هذا التوجه لفت انتباهي منذ وقت مبكر وبالتحديد العام 1994م عندما كنت أتردد على هيئة تطوير الرياض (الهيئة الملكية لتطوير الرياض حالياً) بحثاً عن معلومات لأطروحة الدكتوراه التي كنت قد بدأت فيها للتو. هذه المؤسسة الرائدة، وأقصد هيئة تطوير الرياض، كانت تملك مخزوناً من الأفكار والتجارب في ذلك الوقت كان مفاجئاً بالنسبة لي وأثار لدي تساؤلاً عميقاً حول الدافع الذي جعل مؤسسة مثل هذه تملك كل هذه التجربة المعمارية في وقت وجيز. يجب أن أحيل تلك الحكاية لأستاذي المشرف على بحث الدكتوراه في جامعة شيفيلد البريطانية في ذلك الوقت الناقد المعماري المعروف "بيتر بلندل جونز" - توفاه الله قبل عامين تقريباً - فقد كنت أول طالب دكتوراه معه، وكان للتو قد تعين أستاذاً للنقد المعماري في الجامعة، فقد قال لي: إنه يجب أن أعمل دراسة واحدة مركزة كمثال للحالات التي سوف أستخدمها لبناء الدراسة النقدية في البحث، وأذكر بالتحديد ما قاله: "يجب أولاً صنع الطوبة التي سوف تبني منها الجدار بكامله"، وكان يقصد أن أقدم عملاً نقدياً لمشروع واحد يليق ببحث الدكتوراه قبل أن نبحث في باقي المشروعات، ولحسن الحظ اخترت مشروع قصر الحكم في الرياض. وأول ما لفت نظري هو قرار أمير الرياض آنذاك، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - يحفظه الله -، بوقف التصميم الذي قام به المعماري الإيطالي "ألبيني" في منتصف السبعينات رغم أنه قد بدأ التنفيذ فيه. ذلك القرار التاريخي كان نقطة تحول ليس فقط في عمارة الرياض بل إنه أسس لاتجاه فكري عميق يتجاوز ما حدث في مدينة الرياض. لابد أن أقول إن هذا القرار لفت انتباهي بشدة وتحدثت ل"بيتر" عنه فقال لي: اكتب مقالاً مركزاً حول هذا القرار وتأثيره على عمارة منطقة قصر الحكم الآن، وكنت قد أشرت له أن هذا القرار نتج عنه تشكل لجنة تطوير حي السفارات والرياض التي انتهت بتأسيس مركز المشروعات في الهيئة العام 1982م، وأنه لم يكن قراراً عادياً بل مثّل توجهاً عميقاً في "إدارة إنتاج العمارة"، كما أنه شكل على الدوام فلسفة مرتبطة بالجذور والمنابع التاريخية بصرف النظر عن "الطراز" والمنتج البصري المصاحب له. بحثت عن مقترح "ألبيني" ووجدته منشوراً في مجلة يونانية، وقمت بتصوير اللوحات والمخططات وقارنتها بما تم تطويره في الثمانينات، وكيف غير قرار أمير الرياض التوجه الفكري كلياً في عملية إنتاج العمارة. عندما انتهيت من المقال كنت قد تركت جامعة شيفيلد وانتقلت إلى جامعة نيوكاسل لظروف خاصة، وكنت على تواصل مع "بيتر"، وفي العام 1996م طلبت مني مجلة أهلاً وسهلاً كتابة مقال معماري بمناسبة اليوم الوطني للمملكة، وفعلاً بعثت لهم بمقال عنوانه "الثقافة والتاريخ والعمارة" منطقة قصر الحكم في الرياض" Culture, History and architecture: Qasr Alhokom District in Riyadh وهو يتحدث بوضوح عن قرار أمير الرياض وكيف صنع "هوية مولدة" للعمارة المحلية، وليس طرازاً جامداً للعمارة في الرياض، وكيف أثر هذا القرار بشكل كبير على آليات إنتاج العمارة في المنطقة العربية؛ لأنه لم يكن توجهاً مرتبطاً بشكل أو طراز محدد بل بمفاهيم تجعل من العودة للأصول والمنابع هي مصدر التفكير والإلهام، وهو ما عرف عن الملك سلمان حفظه الله. عندما تحدثت عن العمارة السلمانية، لم أكن أقصد بها منتجاً حدث في فترة تاريخية معينة في مدينة الرياض، وإن كان هذا المنتج أحد الشواهد المهمة لتأثير هذه العمارة في الماضي وإمكانية تطويرها في المستقبل، بل كنت أنظر للمفهوم الفلسفي وراء القرار التاريخي في منتصف السبعينات وما تبعه من قرارات غيّرت أسلوب التفكير، ولم تربط الأفكار بمصدر تاريخي معين إلا من حيث خصوصية المكان فقط. كما أنني كنت أنظر لهذا التوجه الذي أصر عليه أمير الرياض آنذاك أنه سبق نظرة الأمير "شارلز" لبريطانيا العذراء في مطلع الثمانينات الميلادية عندما نادى بالعودة لهوية بريطانيا المعمارية وعمل معه في ذلك الوقت ناقدان كبيران هما "روب وليون كرير". العمارة السلمانية كما أراها "فلسفة" سبقت عصرها، وليست "منتجاً جامداً"، إنها "توجه" قابل للتطور وإعادة الولادة، لأنها كانت عبارة عن قرار صاحبته إرادة وإيمان.