كان من يريد قراءة القرآن الكريم من المصحف في القرن المنصرم يتوجه إلى المسجد الجامع في بلدته؛ حيث يجد بضع نسخ قليلة قد لا يتجاوز مجموعها عدد أصابع اليد، مكتوبة باليد من قبل من يجيد الكتابة وبخط جميل؛ حيث عرف واشتهر في كل بلدة عديد من الكتّاب الذين يمضون وقتهم في نسخ المصحف الشريف لمدة قد تتجاوز الأشهر إلى السنة، بحيث ينسخ في المتوسط من يجيد الكتابة طيلة عمره ما يقارب العشر إلى العشرين نسخة، ومنهم من يعمل ذلك بدون مقابل ابتغاءً للأجر، فيما يقوم من به فاقة بالنسخ بمقابل مادي من أحد الموسرين، الذي يغدق عليه بالمال لينجز كتابة نسخة يوقفها على المسجد الجامع في بلدته، واستمر الحال على ذلك ردحًا من الزمن، وبعد أن انتشرت طبعات القرآن الكريم في عدد من الدول التي افتتحت فيها مطابع، بدأت المصاحف المطبوعة تجد طريقها إلى البلاد، ومع انتشار نسخ القرآن المطبوعة بات الناس يتسابقون في المساجد للتلاوة فيها، ونتيجة لذلك فقد تراجع الإقبال على النسخ المكتوبة بخط اليد، كما أن نسّاخ القرآن الكريم الذين ينسخونه بأيديهم قد توقفوا عن ذلك بعد توافر الطبعات الكثيرة المطبوعة، ما جعل النسخ المكتوبة تبقى على أرفف المساجد، ثم بعد ذلك اختفت بسبب تلف عدد كبير منها، بينما قام البعض بالاحتفاظ بالنسخة التي تخص قريبه الذي نسخها وهي قليلة جدًا، وبعد أن تعددت نسخ القرآن الكريم المطبوعة التي تأتي من كثير من دول العالم، فقد تم إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينةالمنورة؛ حيث وضع الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- حجر الأساس للمجمع عام 1403ه وافتتحه عام 1405ه، ومنذ ذلك الحين فقد صار المجمع يوزع المصاحف على المساجد والمدارس، واكتفت البلاد من المصاحف بما ينتجه المجمع، بل صار المجمع يقوم بتوزيع المصاحف لجميع الدول، وتبدل الحال فبعد أن كانت البلاد تستورد نسخ المصاحف من شتى بقاع الأرض، باتت تطبعه وتوزعه على جميع الدول الإسلامية والمراكز الإسلامية في جميع الدول. مهمة صعبة واشتهر كثير من الكتّاب في مختلف العصور بنسخ المصاحف ووضعها في المساجد لينتفع الناس بالقراءة فيها، وفي الماضي القريب كانت المساجد تعج بعديد من النسخ المكتوبة بخط اليد من قبل عدد ممن يحسنون الكتابة بخط مقروء وجميل، مع العلم بأن مهمة الكتابة كانت مهمة صعبة؛ نظرًا لأنها تعني تدوين آيات القرآن الكريم دون خطأ، لذلك كان من يعمد إلى كتابة القرآن الكريم يتأنى في الكتابة ليتأكد من صحة ما كتب، وكانت مهمة الكتابة تستغرق وقتًا متفاوتًا بين كاتب وآخر بحسب السرعة أو نوعية القلم الذي يستعمله، فقد كانت الأقلام فيما مضى من الخشب الذي يبرى بمبراة، ومن ثم يغمس في «دواة» الحبر ثم تتم الكتابة به بسرعة كي لا يجف الحبر، وقد يحتاج الكاتب في بعض الأحيان إلى أن يغمس القلم في الحبر مرتين من أجل إتمام كلمة أو جملة واحدة، الأمر الذي يوضح مدى المعاناة التي يجدها الناسخ في عمله الذي قد يصرف فيه الأسابيع والأشهر لنسخ مصحف واحد، فهناك أقلام تعين الكاتب على السرعة بحيث يكون امتصاصها للحبر قليلًا، وثبات اللون واضحًا، إضافة إلى نوعية الورق المستخدمة للكتابة، حيث إن بعض الورق يكون سميكًا ومصقولًا لا يتشرب الحبر بسرعة، وكان من يريد أن ينسخ القرآن الكريم في مصحف يحتاج إلى ورق وإلى قلم وحبر، وكنت هذه الخامات نادرة الوجود وليست ميسرة للجميع، فالورق يتم إحضاره من الخارج من بعض الدول مثل الشام ومصر، وكان مفللًا، وقبل الانتهاء من الكتابة يتم رص الصفحات ومن ثم حياكتها بالخيوط، ثم يتم عمل تجليد بورق مقوى وغالبًا ما يستخدم الجلد في ذلك، ليخرج المصحف بشكله النهائي، وقد يستخدم الناسخ غالبًا ألوانًا متعددة كالأحمر والذهبي في نسخ أول المصحف كسورة الفاتحة وأول صفحة من سورة البقرة، وبعد ذلك يقوم الناسخ بوضع هذه النسخة في المسجد الجامع بالبلدة ليستفيد منه الكل في التلاوة في جميع الأوقات، وبعد أن توافرت الأقلام الحديثة التي لا تحتاج إلى غمسها في الجبر للكتابة؛ إذ يكتفي بتعبئتها مرة واحدة من «دواة الحبر» بواسطة «شفاط» في أعلى القلم، قد يجعل الكاتب ينسخ عدة صفحات دون الحاجة إلى تعبئة القلم بالحبر، إضافةً إلى توافر كثير من الورق الأبيض الصقيل، بيد أنه بعد توافر ذلك بدأت المصاحف المطبوعة تفد إلى البلاد بكميات كبيرة لتغطي جميع المساجد والمدارس، ما جعل الناس يتركون عملية نسخ المصاحف بخط اليد ويهجرونه إلى الأبد بفضل توافر النسخ المطبوعة وانتشارها في كل مكان. أول مطبعة ومن المعلوم أن الطباعة قد اكتشفت قديمًا على يد «يوحنا جوتنبرج»، وهو الاسم الذي لمع في مدينة «ماينز» بألمانيا، وارتبط باختراع فن المطابع وذلك عام 840ه -1436م-، وكان هذا الاكتشاف إيذانًا بعصر جديد في انتشار العلم والتقاء الحضارات، وتبادل الثقافات، وظهر أول كتاب مطبوع في أوروبا - على الأرجح - ما بين 844 إلى 854ه (1440- 1450م)، وذلك بالحروف اللاتينية المتحركة، وقد ظهرت أول مطبعة عربية لغة وحرفًا على خلاف ما هو شائع عام 1701م في «بوخارست» برومانيا على يد بطريرك أنطاكية للروم الأرثوذكس اثناسيوس الثالث دبّاس الدمشقي (1685- 1724م) الذي عاد إلى المشرق وأسس أول مطبعة عربية فيه عام 1706م في مدينة حلب، ثم كان للسلطنة العثمانية مطبعة ثالثة بإسطنبول عام 1726م، تبعتها بعد ثلاث سنوات ورش للطباعة لدى المسيحيين في «الشوير» بجبل لبنان عام 1724م، وجاسي (مولدوفا) عام 1745م، وبيروت عام 1751م، ثم توالى إنشاء المطابع في كثير من الدول العربية، وكان من أهم مطبوعاتها القرآن الكريم الذي لقي عناية فائقة في القائمين عليها. جهاز متخصص وبعد أن ودّع الناس تلاوة القرآن الكريم من المصاحف المكتوبة بخط اليد بعد تأسيس المملكة نظرًا لتوافر النسخ المطبوعة في المطابع، التي بدأت تفد إلى البلاد من عدد من الدول التي انتشرت فيها المطابع، كان الناس يقرأون في مصاحف متعددة ومكتوبة بخط النسخ والرقعة وأحيانًا كثيرة بالخط الفارسي، وظل الوضع على ذلك ردحًا من الزمن، وفي ظل ازدياد حاجة العالم الإسلامي إلى المصحف الشريف، وترجمة معانيه إلى مختلف اللغات التي يتحدث بها المسلمون، والعناية بمختلف علومه، وكذلك خدمة السنة والسيرة النبوية المطهرة، واضطلاعًا من المملكة بدورها الرائد في خدمة الإسلام والمسلمين، واستشعارًا من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله - بأهمية خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من خلال جهاز متخصص ومتفرغ لذلك العمل الجليل، فقد وضع حجر الأساس لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينةالمنورة في السادس عشر من المحرم سنة 1403 ه -1982م- وافتتحه في السادس من صفر سنة 1405ه -1984م-، ويُعدُّ إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينةالمنورة إحدى صور العناية بالقرآن الكريم، وتبلغ طاقة المجمع الإنتاجية 18 مليون نسخة سنويًا موزعة بين مصاحف كاملة وأجزاء وترجمات وتسجيلات وكتبٍ لعلوم القرآن وغيرها، وقد أنتج أكثر من 361 إصدارًا و300 مليون نسخة حتى عام 2019م. عثمان طه ويُعد الخطاط عثمان طه الذي جاوز عمره 85 عامًا من أشهر خطاطي المصحف الشريف في العالم الإسلامي، إذ خطّ المصحف أكثر من 13 مرة في المجمع، وأمتع العالم بجمال خطه وإتقانه، وتميز بحرصه وتفانيه في خدمة القرآن الكريم، حيث بدأ عمله في المجمع عام 1408ه بعد مجيئه إلى المملكة، إذ عُيّن خطاطًا في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينةالمنورة وكاتبًا لمصاحف المدينة النبوية، منذ عام 1408ه. ويجري المجمع دراسات وأبحاثًا مستمرة لخدمة الكتاب والسنة، ويضم أحدث ما وصلت إليه تقنيات الطباعة في العالم، كما أصدر أكثر من ستين بحثًا محكمًا عن ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه، ومثلها عن ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل، وثمانين بحثًا عن ندوة عناية المملكة بالسنة والسيرة النبوية، و17 عددًا من مجلة البحوث والدراسات القرآنية. وللمجمع خمس مخطوطات خاصة به كتبها خطاط المجمع وروجعت من قبل اللجنة العلمية بالمجمع: اثنتان برواية حفص وواحدة بكل من رواية ورش والدوري وقالون، ويعد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينةالمنورة أكبر مطبعة في العالم لطباعة المصحف الشريف، وهو أحد المعالم المشرقة التي تقدمها بلادنا لخدمة الإسلام والمسلمين في مختلف أرجاء العالم، حيث تقدر مساحة المجمع بمائتين وخمسين ألف متر مربع، ويُعد وحدة عمرانية متكاملة في مرافقها إذ يضم مسجدًا، ومبانيَ للإدارة، والصيانة، والمطبعة، والمستودعات، والنقل، والتسويق، والسكن، والترفيه، والمستوصف، والمكتبة، والمطاعم وغيرها، ونال تصميم مبنى المجمع - ذو الطابع الإسلامي الأصيل - جائزة المدينةالمنورة في رجب 1416ه - ديسمبر 1995م-. أدوات النسخ باليد قديمًا «دواة» الحبر والقلم عثمان طه أشهر خطاطي المصحف الشريف مجمع الملك فهد يعمل على الوفاء باحتياجات المسلمين من القرآن