الإنسان لا يعرف قيمة الأمن إلا عندما يفتقده، كشابع طول دهره لم يذق يوماً تضوعات الجوع. ففي أثناء قراءتي في كتاب المستشرق جون لويس بيركهارت «رحلات إلى شبه الجزيرة العربية» أتيت على أوضاع الحجاج كما صورها هذا المستشرق قبل أكثر من 200 عام فكأنما عشت اللحظات القاسية والوحشية التي كان يعاني منها الناس في الحجاز في تلك الحقبة، فتذكرت ما نعيشه من عدل وأمن وعيشة هانئة يجب شكرها. يقول بيركهارت: «إن عرب شبه الجزيرة العربية أمة أبية شجاعة، وهذا ينطبق حتى على سكان المدن، وذلك مهما كان فساد الشخصية الحقيقية للبدوي بين هذا العرق المنحط «يقصد التركي» فإن الطقوس والشعائر الصارمة في البلاط التركي لم تكن تناسب مفاهيمهم الراسخة». وقال: إن المعرفة القليلة والبسيطة التي يملكها الأتراك للغة العربية ولفظهم السيئ لها حتى وهم يتلون آيات من القرآن، وجهلهم لشبه الجزيرة وخصوصيتها التي ينتهكونها في كل فعل يقومون به، كلها أسباب إضافية لجعلهم مكروهين ومحتقرين في نظر العرب. ويبادلهم الأتراك ذلك الشعور بنسبة الازدراء والكره نفسها. فإن كل من لا يتكلم لغة الجندي التركي أو لا يرتدي زيه، يعتبرونه «فلاحاً» أو ريفياً ساذجاً، وهي عبارة اعتادوا إطلاقها على الفلاحين المصريين كونهم كائنات يعيشون تحت أدنى حالة من العبودية والقمع. أما كرههم للعرق العربي فأكبر بكثير؛ لأن هذا العرق لا يمكنه التساهل مع تصرفاتهم الاستبدادية وتمريرها بلا عقوبة كما اعتدوا في مصر، فهم مقتنعون بأن العربي إذا ما ضُرب فإنه سيضرب مرة أخرى. وعندما يتحدث بيركهارت عن الطرق بين الأماكن المقدسة يذكر السرقات والنهب وأخذ ممتلكات الناس بالإكراه والقوة، فيقول: «في طريقنا بين جدة ومكة توقفنا عند مقهى يقدم القهوة والماء في «البياضية»، وقد قيل لي كان على هذا الطريق اثنا عشر مقهى، وكانت تقدم المرطبات من كل نوع إلى المسافرين بين جدة والمدينة المقدسة، لكن أغلب هذه المقاهي قد هُجرت الآن؛ لأن الرحلات أصبحت تقام ليلاً، ولأن الجنود الأتراك لا يدفعون لقاء شيء إلا بالقسر والإكراه». ثم قال: «وفي مقهى آخر على الطريق توقفنا هناك عند الظهيرة وكانت الفوضى تعم المكان فلم يستطع أحد معها النوم، وبعد وصولنا بقليل، مر فصيل من الجنود الأتراك، ونصبوا خيامهم على مسافة أبعد منا بقليل ثم دخلوا إلى المقهى وأخذوا الماء العذب كله ووضعوه في جرار كبيرة معهم». ثم قال: «وهكذا فإن أكواخ السكان الفقراء هنا معرضة دائماً لكل المصادفات المحتملة التي تصاحب مرور فصائل الجند المتكررة».