تعيش المملكة نهضة ثقافية متعددة الاتجاهات، تشمل أوجه الثقافة التقليدية إلى جانب اتجاهات حديثة تعكس اتساع مفهوم الثقافة وتجاوزه إلى مفاهيم حضارية تنتمي للواقع المعاصر وتعبر عن ثقافته بكل أبعادها المادية والروحية والنفسية. وتمثل الثقافة الصناعية شكلاً ثقافياً جديداً له تاريخه وتراثه المعترف به دولياً، باعتبار الصناعة أحد الأطوار التاريخية المهمة للحضارة الإنسانية. وقد واكبت المملكة الثقافة الصناعية منذ تأسيسها وتملك تراثاً صناعياً يعتد به من الموانئ والمصانع وخطوط نقل النفط ومعامل التكرير وغيرها، والتي يمكن تصنيفها ضمن مفهوم "التراث الصناعي" الذي يعد من الأنماط التراثية الحديثة المرتبطة بالتطور الصناعي في العالم، ويشتمل على بقايا الثقافة الصناعية القديمة، سواءً التكنولوجية أو الاجتماعية أو المعمارية أو العلمية، ويتكون من المباني والآلات والمصانع والمناجم ومواقع التكرير والمستودعات. ومن بين المعالم الثقافية المعبّرة عن التراث الصناعي في المملكة، يأتي مشروع نقل البترول عبر الأنابيب من شرق المملكة حتى ساحل البحر المتوسط –أو ما يعرف بخط التابلاين- على رأس تلك المعالم، لأنه حكاية فخر سعودية تعبر عن تطور صناعي مدهش بدأ مع ولادة المملكة، إضافة إلى تأثيره الثقافي حيث نشأت بسببه -وعلى ضفافه- مدن مثل القيصومة وعرعر. وقصة خطوط التابلاين قصة إرادة وطموح وتحدي غير مسبوقة، تعبر عن ثقافة السعوديين وعزيمتهم التي لم تقف أمامها المعوقات والظروف وبدأت القصة بأمر ملكي عام 1366ه لمشروع ينقل البترول السعودي عن طريق البر بطول 1660 كيلو مترا يبدأ مسار الخط من بقيق ويمتد عبر النعيرية والقيصومة ورفحاء وعرعر التي كانت مضخات للبترول وتحولت لمدن يقطنها الآلاف في وقتنا الحاضر. قبل أكثر من سبعين عام وتحديداً عام 1947م، صمم خط التابلاين وأنشأت شركة التابلاين التي عمل بها 16 ألف عامل معظمهم سعوديون بهدف بناء وتشغيل الخط الذي يمر بدول مثل الأردن وسوريا حتى الموانئ اللبنانية، وتم الانتهاء منه عام 1950م، وفي نفس العام بدء التشغيل الفعلي للخط بطاقة 300 ألف برميل في اليوم ارتفع لاحقاً الى 500 ألف برميل حيث كان ينقل 30% من النفط السعودي الى أسواق أوروبا وأمريكا، واستمر في ضخ البترول لمدة 17 عاماً، وتوقف بسبب احتلال اسرائل لهضبة الجولان السورية ولكنه استمر بضخ البترول بكميات صغيرة لمصافي الأردن حتى توقف تماماً في أوائل السبعينيات الميلادية. قصة نجاح مشروع خط التابلاين أحد القصص التي تؤرخ لإصرار المملكة لأن تكون في مصاف الدول العالمية، وتقف بقايا خط التابلاين شاهداً حضارياً مهماً على تراث ثقافة الصناعية بالمملكة، وأحد الأساسات التي يرتكز عليها "التراث الصناعي" الحديث. هذا التراث يعبر عن قيمة حضارية كبيرة، ويعكس معانٍ ثقافية مهمة انتبهت لها المملكة مؤخراً من خلال الإعلان عن تأسيس الجمعية السعودية للمحافظة على التراث الصناعي، والإعلان عن مبادرة خاصة بالتراث الصناعي تحت مظلة وزارة الثقافة، واللتان تهدفان لتوثيق كل ما يؤرخ لنهضة المملكة، وصيانة معالم التراث الصناعي وتوثيقه وتعزيز حضوره وتأهيل الكوادر الوطنية المهتمة بالتراث الثقافي الصناعي وتعريف الأجيال القادمة بهذه المعالم الحضارية التي أسهمت فيما وصلت له المملكة من تطور حضاري.