كانت الثقافة -وما زالت- هي الشكل الأنصع والأكمل للدول والمجتمعات، باعتبارها تعبيراً جلياً عن كل عصر ومرآة لروحه ورصيده الحضاري، كما أنها تمثل تعبيراً صادقاً عن توجهاته وطرح قضاياه، الأمر الذي يضاعف من أهميتها، وحساسية دورها في القيام بمهامها والنهوض بدورها فائق النشاط تحليلاً ونقداً وتفكّراً وتبصّراً، لا سيما وأن عصرنا هذا نقف فيه على مفترق طرق في ظل هيمنة ثقافة الصورة وما يستتبعها من ثقافة أصولية تستوجب أن تعود الثقافة كرائدة للتوجّه وتحتل موقعها في المركز وصدارة التأثير. إن القيادة الحكيمة حين أولتها هذا الاهتمام الكبير تدرك بوعي عميق حساسية دور الثقافة وأهمية ما تثمره الوظيفة الثقافية من دور طليعي لقادة الرأي والنظر المستشرِف للمستقبل ورهاناته وتحدّياته. ولأجل ذلك كانت الثقافة في المملكة هي منطلق المبادرات بعد أن كانت في البدايات تستند في الأغلب على اجتهادات فردية مما ساهم في صياغة تكوينها وآفاق عملها وغاب فيها العمل المؤسسي نوعاً ما. هذا الاتكاء على الجهد الفردي بين نخب ثقافية ساخرة ومتذمرة من واقع الثقافة وتفتقر للتكريم وتثمين دورها وجهودها وأوساط شبابية ليست بعيدة عنها دفع بها في كثير من الأحيان نحو التوقف للإقصاء والتهميش لدورها الفاعل والمؤثر. ورغم تداخل الأصوات الشبابية ثقافياً وقوتها من جانب وضعفها في الجانب الآخر بالإضافة إلى تعددها أصّل نحوها شكل هذا الفعل الثقافي الذي أوجد فيما بعد مجتمعاً ثقافياً مسؤولاً، نخبوياً وشبابياً، يعتمد على نفسه رغم كل العوائق والعراقيل وشكل أرضية مناسبة نزعت الغطاء عن ثقافة سعودية حقيقية مما أعاد الروح للمجتمع الثقافي الذي أصبح يعبر وله الحق الكامل في المشاركة على الرغم من تعدد الأطياف الفكرية وتوجهاتها المختلفة التي تعتمد بالكامل على ذاتها. ومنذ الإطلاق الرسمي لوزارة الثقافة ككيان مستقل والتي أُنْشئت في يونيو 2018م بموجب الأمر الملكي الكريم أ/217 تباشر المبدعون والمثقفون بهذا النصر الذي يحسب لهم وللثقافة في تخصيص وزارة خاصة للثقافة في المملكة وتوكل مهامها لوزير الثقافة صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود الذي أنعش الحياة الثقافية بقيادته للرؤية الثقافية وتوجهاتها. اللافت أن كل ذلك جاء تزامناً مع رؤية المملكة 2030 هذه الرؤية الحاذقة المتبصرة للمملكة من حيث موقعها في المجتمع الدولي والتي كشفت بهذا للعالم أجمع برامجها النوعية على الصعد كافة والمجالات منها هذا التفرد النوعي لوزارة الثقافة واستقلاليتها مما يشير إلى صياغة مجموعة من السيناريوهات التي تشكل المعالم الرئيسة لها وإطلاق حزمة مبادرات معلنة كان أبرزها: تأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وإنشاء صندوق «نمو» الثقافي، وإطلاق برنامج الابتعاث الثقافي، وتطوير المكتبات العامة، وإقامة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. وتنتمي هذه المبادرات ال 27 إلى 16 قطاعًا ثقافيًا تخدمها الوزارة وجاءت على النحو التالي: اللغة، والتراث، والكتب والنشر، والموسيقى، والأفلام والعروض المرئية، والفنون الأدائية، والشعر، والفنون البصرية، والمكتبات، والمتاحف، والتراث الطبيعي، والمواقع الثقافية والأثرية، والطعام وفنون الطهي، والأزياء، والمهرجانات والفعاليات، والعمارة والتصميم الداخلي، والتي تُشكّل في مجموعها وتتسع لرؤى مستقبلية متباينة على اختلاف المسارات الثقافية وأنساقها في عالم ينمو نمواً متسارعاً ويتجه إلى تغيرات شديدة، وبالتالي ما يؤول إليه أن وزارة الثقافة السعودية أُنشئت والثقافة كانت على مفترق تحولات كبيرة ورصد هذا الاستشراف ليس من باب رسم التخيلات لما ستكون عليه الثقافة وأعمال الخيال والتفكير نحو ذلك، بل استخدام القياس الذي تم على واقع حقيقي ورصد كل أبعاده واستقرائه واستنباط وبلورة كل نقاط الالتقاء مع الرؤية الثقافية المستقبلية وتمكين احتمالية نجاحها الكبيرة في ذلك.