أضحت ليبيا ميداناً للصراع بين الفرقاء السياسيين الليبيين، وقوى إقليمية ودولية طامحة في توسعة النفوذ بالبلاد، والتي تستخدم كل منها وكلاءها سواء من القوى المحلية أو الميليشيات الإرهابية المسلحة التي تمثل أداة نشر الدمار والخراب، وإرهاب الشعب الليبي، وإهدار ثرواته النفطية، في أوضاع باتت تشكل كوابيس تقض مضاجع الليبيين الباحثين عن آمال الاستقرار، والقضاء على حكم الميليشيات، والتدخلات الخارجية. وضع الجيش الوطني ينقسم المشهد الليبي ما بين حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج والجيش الوطني الذي يتبع مجلس النواب بقيادة المشير خليفة حفتر الذي يقدم نفسه كقائد سياسي منفتح، ويدعو دائماً إلى اتخاذ التدابير والإجراءات التي تحمي الدولة الليبية وشعبها وحدودها، والتصدي الدائم لكل ما ينتهك السيادة الوطنية. وبحسب تأكيدات الجيش الوطني الليبي فإنه يسيطر على الشرق الليبي بالكامل، وحاولي 90 % من الأراضي الليبية، وعلى نحو 85 %من مصادر النفط الليبية، بينما يفتقد النفوذ على إقليم طرابلس الذي يضم العاصمة ومدينة مصراته، وجميعها مناطق تسيطر عليها ميليشيات مسلحة مدعومة خارجياً بالأموال والعتاد العسكري، وتحمل العداء لحفتر والعسكريين؛ مما جعل السيطرة عليها ليس بالأمر السهل. ولا يعترف حفتر ورفاقه بشرعية حكومة الوفاق الوطني في طرابلس التي يرأسها فايز السراج رغم اعتراف المجتمع الدولي بها، لعدة مسببات يتقدمها: عدم حصول حكومة الوفاق الوطني على ثقة البرلمان وهو التشريع الذي يأتي ضمن نصوص «اتفاق الصخيرات» الذي حمل آمال السلام بين الفرقاء الليبيين. كما يدرك حفتر أن قوى الإسلام السياسي تريد إزاحته من مستقبل ليبيا باستغلال أحد بنود اتفاق الصخيرات التي تنص على نقل جميع المناصب المدنية والعسكرية والأمنية العليا التي يشرعها القانون الليبي إلى مجلس الوزراء. ويرى حفتر أن حكومة السراج تستهدف شرعنة الميليشيات المسلحة مثل الإخوان والجماعات المقاتلة، وإدماجها بالجيش الوطني الليبي، مما يجعل لديه تخوف دائم من توسع نفوذ قوى الإسلام السياسي المدعومة خارجياً في وقت شارك خلاله عناصرها في معارك ضد الجيش. ويضاف إلى جملة أسباب رفض الجيش الاعتراف بحكومة الوفاق أن الأخيرة لم تظهر أي دعم لحفتر والعسكريين الليبيين ضد الجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة اللتين تحالفتا مع ميليشيات بنغازي ودرنة ومصراتة وطرابلس. وضع حكومة السراج تواجه حكومة الوفاق الوطني التي تحكم طرابلس بقيادة فايز السراج سخط الجيش الوطني بسبب موقفها المتماهي مع تنظيم الإخوان والميليشيات المسلحة، وما كشفته مصادر ليبية عن رضوخ السراج لتعليمات من الإخواني المقيم بتركيا علي الصلابي مهندس النفوذ التركي بليبيا، وآخرها استقبال السراج لوفد عسكري تركي بطرابلس. وازدادت حنقة العسكريين الليبيين ضد حكومة الوفاق بعد إقدامها على تعيين وزراء من تنظيم الإخوان بحقائب الداخلية والكهرباء والصناعة والمالية، إضافة لسيطرة التنظيم على مصرف ليبيا المركزي. وكانت حكومة السراج قد عينت قائد ميليشيات مصراته فتحي باشاغا، وزيراً للداخلية، رغم تأكيدات الجيش الوطني بتورط باشاغا في الهجوم على منطقة الهلال النفطي، وتزعم ميليشيا المرسي التي أحرقت مطار طرابلس الدولي عام 2014، واستخدامه لفزاعة الميليشيات من أجل إرهاب الليبيين. وانزعج الجيش الوطني من إقدام السراج على تعيين القيادي بتنظيم الإخوان علي العيساوي وزيراً للاقتصاد والصناعة رغم التقارير التي تؤكد تورطه في اغتيال رئيس أركان الجيش، اللواء عبدالفتاح يونس عام 2011، وعمليات اغتيال وتصفية أخرى ضد قادة عسكريين من الجيش. وشكلت تعيينات السراج لقادة الإخوان بمناصب وزارية تصوراً لدى مجلس النواب التابع للغرب الليبي أن حكومة الوفاق أداة بيد الإخوان والميليشيات المسلحة التي تتخذ الحكومة ذريعة لحكم ليبيا، والسيطرة على نفطها ومقدراتها، وفتح الأبواب أمام النفوذ التركي والقطري. ويؤيد برلمان المنطقة الغربية ضرورة تغيير السراج، وانتخاب رئيس جديد لحكومة الوفاق بطرابلس يتبعه نائبان أحدهما من غرب ليبيا، والآخر من المنطقة الشرقية للبلاد. التدخلات القطرية التركية وتطرأ على الساحة الليبية معضلة أخرى تتمثل في التدخلات التركية القطرية المتعلقة بدعم تنظيم الإخوان، وتوسعة النفوذ التركي بالمنطقة، ففيما يخص التدخل التركي فيستهدف في المقام الأول إجهاض جميع المحاولات التي تسعى لإعادة بناء الجيش الليبي وتوحيده بغية تعزيز النفوذ التركي، وشرعنة قيادات وميليشيات الإخوان. وسعت تركيا في تدعيم أجندتها بليبيا عبر دعم جميع الميليشيا المسلحة بالأموال والأسلحة، وهذا ما ظهر للعلن بضبط ثلاث سفن تركية محملة بالمتفجرات والأسلحة خلال أقل من عام قبل وصولها لميليشيات ليبيا، حيث وقعت إحدى هذه السفن بقبضة البحرية اليونانية في البحر المتوسط، وهذا ما عرف إعلامياً بفضيحة «سفينة الموت التركية»، بعدها تمكنت السلطات الليبية من ضبط سفينتين تركيتين جديدتين محملتين بالقنابل والأسلحة؛ الأمر الذي أثار سخط الأوساط والقوى الوطنية الليبية التي رأت أن علاقات السراج بتركيا والإخوان تعزز الانقسام، وما يشكله من تعميق لأزمات البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. أما قطر فقد نسجت أخطر مؤامرة تخريبية ضد ليبيا، منذ أحداث 2011، باستغلال الدوحة للمال السياسي ووكلائها من الإخوان والتنظيمات الإرهابية؛ وهذا الأمر ذاته الذي وثقه الجيش الليبي بأدلة دامغة تثبت تورط النظام القطري في نشر الدمار والخراب بربوع ليبيا، وتحويلها إلى مرتع للإرهابيين، ومخزن كبير للأسلحة بإدارة قطرية تمثلت في كل من محمد حمد الهاجري الذي كان يشغل منصب القائم بأعمال السفارة القطرية بليبيا، وكذلك سالم علي الجربوعي العميد بالاستخبارات القطرية، اللذين أشرفا على قتل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ثم تفرغا بعدها للإشراف على توزيع مهام الميليشيات الإرهابية المكونة من الإخوان والقاعدة وداعش، تحقيقاً لأجندة السيطرة على ليبيا، وجعلها مصدر تهديد دائم لدول الجوار. وتورط النظام القطري على مدار السنوات التي أعقبت 2011 في إقامة جسر جوي بمطار بنينا لنقل الأسلحة والصواريخ والمتفجرات إلى مختلف الميليشيات المسلحة، كما تورط في نقل الإرهابيين العائدين من سورية والعراق إلى ليبيا، ومنحهم مناصب قيادية. لم يكتف النظام القطري بنشر الإرهاب في ليبيا، بل بلغت جرائمه التورط في ارتكاب العديد من عمليات الاغتيال التي طالت قيادات الجيش الليبي، ومنهم عبدالفتاح يونس رئيس أركان الجيش الليبي، ثم انتقل النظام القطري إلى محاولة ضرب ليبيا في ثروتها النفطية بدعم هجمات الإرهابيين على منطقة الهلال النفطي الاستراتيجية، وتكبيد الاقتصاد الليبي خسائر فادحة. الصراع الفرنسي الإيطالي وفيما يخص التواجد الدولي بليبيا، فيأتي بصورة استعمار جديد للبلاد، تجسد في صراع نفوذ أوروبي بين فرنساوإيطاليا المنشغلتين بملفات عدة بليبيا أبرزها الإرهاب والهجرة غير الشرعية والاقتصاد النفطي، حيث تدعم فرنسا مناطق الشرق الليبي، بينما تدعم إيطاليا المنطقة الغربية الليبية. وفي وقت تدعو خلاله باريس إلى ضرورة الإسراع في إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية بليبيا، ترفض إيطاليا هذا المسعى، معتبرة أن إجراء الانتخابات بشكل سريع قبل الدخول في مصالحة شاملة، وحل جميع الخلافات السياسية بين الفرقاء الليبيين، سيؤدي إلى إدخال البلاد في دوامة كبيرة من العنف تصبح تكراراً للنموذج العراقي بعد سقوط صدام حسين. وتعتبر باريس أن روما تزاحمها في منطقة نفوذ استراتيجي لها، وتسعى إلى إحكام السيطرة على الشواطئ الليبية بعد تقارير أمنية غربية تتحدث عن أن مرتكبي الهجمات الإرهابية الكبرى التي هزت فرنسا عام 2015، قد تلقوا تدريبات في صحراء ليبيا، وحصلوا منها على أسلحة. كما تطمح فرنسا لاستعادة نفوذها بأفريقيا عبر البوابة الليبية وصولاً إلى النيجر وتشاد جنوباً، وتونس والجزائر شمالاً، إضافة إلى نيات باريسية لمجابهة خطر الهجرة غير الشرعية، وتحقيق مكاسب اقتصادية مثل عوائد إعادة بناء الجيش الليبي، وخطط إعادة إعمار لبيبا التي تشتمل على مشروعات عدة للبنى التحتية في بلد غني بالنفط. أما إيطاليا، فتمتد مصالحها بليبيا منذ الحقبة الاستعمارية، ثم التعاون الاقتصادي مع معمر القذافي والذي تجاوز أكثر من خمسة مليار دولار بصفقات في مجالات الطاقة والبنى التحتية. وترى روما في الأراضي الليبية عمقاً استراتيجياً لها، وتسعى من خلالها إلى إعادة التموضع في الشمال الأفريقي، ومنطقة البحر المتوسط.