تُعد تجربة الإخوان المسلمين في ليبيا من أقدم التجارب، إذا ما قورنت بمثيلاتها بباقي الدول العربية والإسلامية، على اعتبار أن أول آثار التواجد الإخواني بليبيا يعود إلى نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي. الإخوان.. الورقة القطرية لإخضاع طرابلس «سياسياً» ولعل ما يدعم هذه الأطروحة ما جاء في مذكرات الحاكم العسكري البريطاني في ليبيا "إيريك آرمار فولي دي كاندول" والتي ذكر من خلالها أنه في أوائل يوليو سنة 1949، التقى بالأمير إدريس السنوسي والذي أخبره بأنه، في مساء اليوم السابق، سمع طرقاً على النافذة، فلما استوضح الأمر وجد ثلاثة شبان غرباء يطلبون مقابلته بصورة مُلحة: وحين دخلوا عليه قالوا إنهم لاجئون من مصر بعدما تم اتهامهم بالضلوع في جريمة اغتيال رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشى باشا. ويعلق صاحب المذكرات على هذه الحادثة بالقول: "هؤلاء الشبان الثلاثة لم يكونوا، في واقع الأمر، سوى أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين في مصر". ويؤكد "دي كاندول" على تفاصيل هذه القصة عندما يقول في موضع آخر من مذكراته: "بدأ نشاط الإخوان المسلمين بالظهور في ليبيا منذ عام 1949م عندما لجأ إليها ثلاثة من الإخوان المصريين وهم "عز الدين إبراهيم ومحمود يونس الشربيني وجلال الدين إبراهيم سعدة"، حيث قاموا بالتمهيد للحركة ببث الدعوة لها بين صفوف الشعب الليبي، وقد ساعدهم في ذلك عُمر باشا الكيخيا الذي كان يعمل حينئذ رئيساً لديوان الأمير إدريس السنوسي، واستطاعوا أن يكوّنوا أول شعبة للإخوان في ليبيا تحت اسم: "هيئة الدعوة الإسلامية". ولعل التعاطي مع السياقات التاريخية لتطور نشاط التنظيم في ليبيا، يفيدنا بتماهي التكتيكات الإخوانية في بلاد "عمر المختار" مع تكتيكات الجماعة الأم في مصر، من خلال اعتماد آليات الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي للوصول إلى ما يصطلح عليه في أدبيات جماعات الإسلام السياسي بمرحلة النصر والتمكين. غير أن ما يميز الحالة الليبية هو انفراد التنظيم هناك بمحاولات أو "انزلاقات" لصياغة تكتيكاتها للوصول إلى السلطة في كتابات يتم اعتمادها "حالياً" كدستور عملي من طرف باقي فروق التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في العالم، ونخص بالذكر كتاب القيادي الإخواني البارز "علي محمد الصلابي" والذي أطلق عليه عنوان "تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم"، وهو ما شكل انحرافاً صريحاً لتوجيهات مرشد الجماعة ومؤسسها حسن البنا الذي أمر أتباعه بعدم التوجه إلى الكتابة، بالنظر إلى الحالة المتقلبة للتكتيكات الإخوانية وكذا تغيرات البيئة الاستراتيجية في البلدان العربية مما يفرض معه تغييراً مستمراً في تكتيكات التعامل مع الأنظمة وباقي الفاعلين السياسيين، حيث نجد حسن البنا يقول في أول جملة له في كتابه "مذكرات الدعوة والداعية" ما نصه: "أوصي الذين يعرضون أنفسهم للعمل العام ويرون أنفسهم عرضة للاحتكاك بالحكومات ألا يحرصوا على الكتابة". ولعل رصد العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام الليبي على عهد الرئيس السابق معمر القذافي، والتي انتهت "ظاهرياً" باحتوائهم، قبل أن ينقلبوا عليه في أعقاب ما اصطلح عليه ب"الربيع العربي"، تفرض علينا المرور على بناءاتهم "السياسية"، ولو مرور اليتيم بقوم. وهنا نقطع بأن الإخوان في ليبيا اعتبروا مؤلَّف علي محمد الصلابي بمثابة دستور ديني وسياسي للتنظيم تم الانضباط له في مختلف مراحل الصراع على السلطة في ليبيا. في هذا السياق، يُعرف علي الصلابي التمكين من خلال الإحالة على إحدى التعريفات التي طرحها الإخواني السوري فتحي يكن حين يقول: "التمكين هو بلوغ حال من النصر، وامتلاك قدر من القوة، وحيازة شيء من السلطة والسلطان، وتأييد الجماهير والأنصار والأتباع، وهو لون من ألوان الترسيخ في الأرض، وعلو الشأن". ويرى الصلابي أن التمكين للمؤمنين (يقصد بهم الإخوان) له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها، تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة". من هذا المنطلق، ظل حلم الوصول إلى السلطة معطى ثابت في تدبير تكتيكات الصراع مع النظام الليبي، في انتظار إنضاج الشروط الذاتية والموضوعية للوثوب على السلطة، في ظل الدعم الكبير الذي تلقته، ولا تزال، الجماعة من دول من أمثال تركيا وإيران وخاصة قطر. لقد حاول النظام الليبي السابق احتواء تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا رغبة منه في إضفاء إجماع وطني حول شرعية نظام الحكم، وهم ما استجابت له الجماعة، لا خضوعاً لسلطة الدولة، وإنما كتدبير مرحلي للصراع مع النظام، والذي، كما يبدو، كان مسيطراً على كواليس اللعبة السياسية في ليبيا. هذا بالإضافة إلى وعي الجماعة بأن البيئة الليبية تبقى جد خاصة، على اعتبار أن الليبيين لا يرون مانعاً في تطبيق الشريعة الإسلامية، لكنهم يعبرون عن حساسية مفرطة تجاه الأحزاب أو أي تيار يتبنى الدين لأهداف سياسية محضة. وربما هذا المعطى راجع لبعض التمظهرات الدينية للشعب الليبي ذي الميولات السلفية وكذا الصوفية واللذين يجتمعان في رفض الحزبية والموقف من جماعة الإخوان المسلمين والتيارات المتطرفة. في هذا السياق، قام سيف الإسلام القذافي بإجراء اتصالات مكثفة مع التنظيم الإخواني في ليبيا، انتهت بإعلانه عن مشروع "ليبيا الغد"، والذي رحبت به القيادات الإخوانية في الداخل والخارج، حيث اعتبر صاحب كتاب "فقه النصر والتمكين" أن جميع قادة الإخوان السابقين داخل البلاد، ممن قابلهم، وعلى رأسهم المراقب العام السابق للإخوان الدكتور عبدالله عز الدين، والذي كان محكومًا عليه بالإعدام، والدكتور عبد الله شامية (الذي حكم عليه بالمؤبد)، والدكتور عبداللطيف كرموس (المحكوم بالمؤبد هو الآخر) وغيرهم، أيدوا مشروع "ليبيا الغد"، ودعموه بقوة، معلنين استعدادهم للمشاركة في إنجاحه مع بقية أبناء وطنهم. ويبدو أن سيف الإسلام القذافي "ربما" لم يكن ملماً بالبنية السلوكية للتنظيم الإخواني، وأخطأ خطأً قاتلاًِ عندما "أخرج المارد من قمقمه"، ولم يستفد من تجربة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات عندما قام، بداية سبعينيات القرن الماضي، بإبرام صفقة مع التنظيم الإخواني كان الغرض منها مواجهة معارضيه من الناصريين والشيوعيين، فقام بإخراجهم من السجون وأعادهم إلى وظائفهم وأطلق شعار "مصر.. دولة العلم والإيمان"، فيما لقبه الإخوان آنذاك ب"الرئيس المؤمن"، قبل أن ينقلبوا عليه، تحت تأثير جرعات التكفير التي اعتنقوها من شيخ التكفير سيد قطب والتي انتهت باغتياله في حادثة المنصة الشهيرة بتاريخ 06 أكتوبر 1981م. هكذا إذا تم اعتبار الإخوان المسلمين في ليبيا كحلفاء للنظام الليبي من خلال علاقتهم الطيبة بسيف الإسلام القذافي، خصوصاً بعد تغير موقف الإخوان داخل ليبيا من العداء لنظام القذافي إلى المهادنة، حيث تعاونوا مع سيف القذافي حين طرح مشروعه الإصلاحي عام 2005. ولم يكتفِ الإخوان المسلمين بتبني خيار المهادنة مع نظام القذافي، بل تحولوا إلى أشد المتحمسين له من خلال تأكيدهم على أن الإصلاح الذي يقوده نجل قائد الثورة الليبية معمر القذافي، من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات، "مهمة شاقة لا يمكن تحقيقها إلا بتضافر جميع القوى الإصلاحية الوطنية المخلصة". ويمكن اعتبار التحالف المرحلي للنظام الليبي مع الإخوان بمثابة الخطأ الثاني الحاسم في مسار النظام السياسي الليبي، والذي سمح بهامش مناورة مهم للإخوان في ليبيا على حساب الحلفاء الكلاسيكيين للنظام، وهو ما سهل عليهم مهمة مواصلة الانتشار والاختراق حتى تمكنوا من وضع اليد على مفاصل حيوية في الهيكل المؤسساتي للدولة الليبية وخصوصاً القطاع المصرفي. وعقب الأحداث المتسارعة التي تزامنت مع "ثورة" 17 فبراير 2011م، قامت قطر بتبني سياسة خبيثة ذات أبعاد ثلاثة وترتكز على: البعد السياسي: من خلال فرض الإخوان المسلمين كطرف في المعادلة السياسية، حيث قدمت الدوحة ستة أشخاص من قطر يمثلون التيار الإخواني ليصبحوا أعضاء في المجلس الوطني الانتقالي، وشكلوا لاحقاً حلقة الوصل بين المجلس والحكومة القطرية برئاسة الأمير السابق حمد بن خليفة. البعد الإرهابي: حيث قامت الدوحة بتوجيه نشاط التنظيمات المتطرفة نحو ليبيا قصد العمل على إنهاكها أمنياً واقتصادياً ليسهل التحكم فيها سياسياً. البعد التخريبي: من خلال توجيه عصابات منظمة للسطو على مقدرات الدولة الليبية والإطاحة بالمؤسسات وسرقة النفط والاستحواذ على أرشيف الدولة، كما قاموا بنهب المصارف والشركات والمحال التجارية ومنازل كبار المسؤولين ورجال الأعمال، ليراكم نظام الحمدين ثروات ضخمة من وراء هاته العمليات. لقد قامت قطر بدعم التيار الإخواني سياسياً من خلال تنظيمهم الذي أطلقوا عليه "حزب العدالة والبناء"، وتم تحصينه عسكرياً من خلال تأسيس أجنحة عسكرية للتنظيم ممثلة في جماعة "درع ليبيا" و"كتيبة 17 فبراير"، دون إغفال التحالف المُعلن للتنظيم مع "الجماعة الليبية المقاتلة" بزعامة عبدالحكيم بلحاج، بالإضافة إلى محاولة ضمان دعم باقي التيارات السياسية له من خلال إطلاق مسلسل شراء الذمم، حيث تتحدث مجموعة من الوثائق على أن نواباً ليبيين تلقوا عمولات من قطر تتراوح بين 250 ألف دولار إلى نصف مليون دولار للنائب الواحد، وذلك بشهادة المدعو خالد الترجمان، وهو أحد رموز الثورة الليبية ورئيس مجموعة العمل الوطني في ليبيا، وأمين السر السابق للمجلس الانتقالي، والمستشار السابق لرئيس المؤتمر الوطني. هكذا إذا راهنت قطر على تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا كمقدمة لوضع يدها على الاقتصاد الليبي، والتوجه نحو تحقيق حلم بناء "الكيان الموحد" تحت حكم الإخوان من المغرب إلى قطاع غزة مروراً بتونس وليبيا ومصر. غير أن المرور القطري في ليبيا، والذي أعلن بداية إفلاسه، لن يمر دون إراقة دماء ليبية عزيزة كانت وراءها، هذه المرة، تنظيمات إرهابية مدعومة من قطروتركيا، وهو موضوع الحلقة المقبلة من هذا الملف. الملك السنوسي كان شاهداً على أول حضور للإخوان في ليبيا