الدرس الأول في كتاب الأخلاق الذي يجب أن يتعلمه النشء ألا يفجر في الخصومة مع أقرانه، وأن يقول الحق ولو على نفسه، وأن يضع نفسه في موقع الآخر.. كتاب الأخلاق يجب أن يكون حاضراً سواء في مؤسسات التربية والتعليم وفي نطاق الأسرة.. كلنا قرأ ذلك الحديث الشريف، الذي جعل من آية المنافق أنه إذا خاصم فجر.. فمن توقف لإسقاط هذا الهدي الكريم على سلوك مضطرب يجر المجتمع لكوارث ومصائب كبرى. يتنوع الفجور في الخصومة، بقدر تمكن نزعة الانتقام الأعمى، وهو أعمى حقاً، وكم دفع المجتمع من ثمن باهظ، وكم ذهب في طريقة من ضحايا، وكم شوه علاقات البشر حتى صارت إلى شهوة انتقام لا تهدأ ولا تركن لعقل ولا حق ولا قانون. من يشجع ابنه على أخذ حقه بيده -مع التحفظ على كلمة حق- لأن الحقيقة والحق أولى ضحايا الخصومات، ومن يتراخى في مواجهة سلوك ابنه أو يثير فيه نزعة المواجهة دون ضمير يقظ أو استدراك.. إنما يقدم ويربي للمجتمع كارثة لا محالة. من يتهاون أو يبرر سلوك ابنه الذي كسر قلم زميله غفلة أو سرق حقيبته أو تسبب له في مشكلة انتقاماً أو حقداً أو كراهية.. إنما يزرع بذرة الفجور في الخصومة.. التي سيدفع ثمنها الابن والأسرة والمجتمع يوماً ما. إنها حالة صغيرة، وقد تكون تمثيلاً ساذجاً في نظر البعض، لكن هي من يؤسس لذهنية الفجور في الخصومة، وكم من جريمة إيذاء فادح في النفس والممتلكات كان دافعها فجور في الخصومة، تغذيه أحقاد لا تهدأ.. تجد من ينفخ في رمادها لإشعال جذوتها وإضرام حرائقها. كم من علاقة مرتبكة بين زوجين وصلت حد الشقاق.. أشعلت نزعة الانتقام الأعمى لتغرق الأسرة في وبال لا قبل لها به. ومن يتابع ما ينشر من قضايا من هذا النوع سيدرك إلى أي مدى وصل هذا الوضع الذي جر أسر بعض الضحايا لأفدح المصائب. وكم من علاقات زملاء عمل، اضطربت وتوترت، ونال بعضها من آثار تلك الخصومات متاعب وآلام وتعسف في المعاملة وربما فصل من العمل.. لتنتج عواقب أخطر. وكم من خلاف حول أراضٍ وعقارات، زرعت الشقاق والنفاق بين أبناء العشيرة الواحدة، حد أن تتراكم خصومات شديدة ومستمرة.. وربما أدت إلى ما لا يحمد عقباه. وكم.. وكم.. والرابط المشترك بين تلك القضايا وأشباهها، أنها تأخذ أبعادها من خلال الفجور في الخصومة حد إشعال نزعة الانتقام وما يجر إليه من كوارث وما يحصد من بلاء. ومن العوامل التي تؤثر سلباً في الخصومات، هو الاستخدام السيئ للسلطة -أياً كان نوع تلك السلطة سواء كانت معنوية أو مادية أو اجتماعية- التي قد تمكن من تجاوز الحد والاستغراق في وضع الآخر/ الخصم في موقع يتعرى فيه من عوامل القوة لتتحرك شهية الانتقام.. "وعلي وعلى أعدائي" خير تعبير عن رد الفعل الأقرب للجنون أحياناً. وأخطر أنواع الفجور في الخصومة بين من يملك القوة والوسيلة ويوظفها لصالحه في سبيل إيقاع أفدح الأذى بالخصم، وبين عارٍ من تلك القوة أو المقدرة مهما كانت درجة الخطيئة أو نوع الارتكاب. شهادة الزور سمة لا تفارق الفجار في الخصومات. وحشد الأدلة المزورة وتلفيق الوقائع، علامة تستحق التوقف في تحليل شخصيات أولئك المنزوعة عن عقولهم وأخلاقهم شرف الخصومة. القانون وطلب العدالة، المعادل الموضوعي للفصل بين خصمين. وعندما يتباطأ أو يتعثر.. فلا محالة أن هذا الوضع يعزز نزعة أخذ الحق باليد، وهذا لا يعني في النهاية سوى تكريس شرعة الغاب.. الأقوى يلتهم الضعيف والضعيف تعميه شهوة الانتقام.. والفجور مع الخصوم، ليس فقط إيذاء مادياً مباشراً عبر وسائل وطرق غالباً ما يمارسها المجرمون، ولكن أحياناً يكون إيذاء نفسياً من خلال بث الإشاعات وتشويه السمعة، والحط من الكرامة وتوزيع الاتهامات جزافاً والترويج لها وغيرها.. من أساليب تأنف منها النفوس الكريمة.. ومع شيوع وسائل التواصل الاجتماعي أصحبت ظاهرة تشويه السمعة والابتزاز والانتهازية ظاهرة جلية لا تحتاج لكثير بيان. الفجور في الخصومة لا يمكن التعامل معه إلا من خلال: تربية أسرية واجتماعية وتعليمية تهتم بهذا الجانب، وتوليه جل عنايتها.. لبناء نفوس تمقت الفجور في الخصومة، وتبحث عن العدالة من خلال وسائل مشروعة في حال وقوع الضرر. الدرس الأول في كتاب الأخلاق الذي يجب أن يتعلمه النشء ألا يفجر في الخصومة مع أقرانه، وأن يقول الحق ولو على نفسه، وأن يضع نفسه في موقع الآخر. كتاب الأخلاق يجب أن يكون حاضراً سواء في مؤسسات التربية والتعليم وفي نطاق الأسرة.. أما العامل الآخر الذي يجب أن يكون حاضراً لمحاصرة هذه النزعة القاتلة، فهو تكريس النظام والقانون وسد الثغرات التي يعبث بها بعض الخصوم، كلما تعززت دولة العدل والقانون كلما تراجعت نزعة الفجور في الخصومات لأن الثمن سيكون مكلفاً.