ليس ثمَّة شك أنّ الجميع من أهل السياسة والإعلام أصبح مقتنعاً اليوم بأن قناة الفتنة القطرية أنشِئت خصيصاً لتكون رأس حربة متقدمة في دور قطر في خدمة أجندة "الفوضى الخلاَّقة"، كما ثبت بالقرائن والحقائق المادية الملموسة من خلال طائراتها التي عبرت الأجواء محملة بكل أسلحة الموت والخراب والدمار التي أرسلتها إلى دول "الخريف العربي" من سورية إلى لبنان فمصر وليبيا واليمن؛ فضلاً عن أرتال الحقائب المحملة بمليارات الدولارات التي أرسلتها إلى عملائها في تلك الدول من خلال عمليات غسيل أمول قذرة، بحجج واهية تحت عناوين مكشوفة لكل من كان له أدنى اهتمام بقراءة بوصلة الخارطة السياسية في المنطقة، وما يُراد لها ويُخطط بدعم أدوات الهدم والخراب والدمار مثل قطر. وعلى كل حال، ليس الأمر سرَّاً أو رجماً بالغيب، بل مسجلاً بالصوت والصورة في قناة الفتنة وأخواتها، كما جاء في حديث رئيس وزراء قطر الأسبق وزير خارجيتها حمد بن جاسم آل ثاني، الذي أجاب بالحرف عندما سئل عن سر تدخل قطر السافر في شؤون تلك الدول المنكوبة وإصرارها على تأجيج نيران الفتنة فيها بذلك السخاء المنقطع النظير. أقول، ليس ثمَّة شك أن الجميع أصبح يدرك اليوم هذا الدور القذر لقناة الفتنة، والمتابع للشأن السياسي والإعلامي، يدرك مدى هذا الحقد الدفين والانحطاط الأخلاقي في الكذب والتلفيق على بلاد الحرمين وقادتها وشعبها، لاسيَّما منذ حادثة الأخ جمال خاشقجي -رحمه الله-، فمنذ يومئذٍ لم يكن لقناة الفتنة شغل شاغل غير النفخ في نار الفتنة لتأجيج العالم ضد بلاد الحرمين، دون أدنى مراعاة لأخلاق المهنة أو مراعاة لمشاعر عائلة خاشقجي -رحمه الله-. وللأسف الشديد، في اليوم الذي أشيع فيه أن قطر لم تحرق مراكب العودة إلى الحضن الخليجي، إثر انعقاد قمة دول مجلس التعاون 39 في عاصمة الرياض برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله ورعاه-، بثت القناة إياها فيلماً وثائقياً، زاعمة أن فيه شاهداً خطيراً، يدعى بوول برايل، صاحب شركة أمنية فرنسية خاصة، زعمت أنه قاد عملية تطهير الحرم المكي الشريف من براثن الجهيمان وزبانيته عام 1979م، بالتزامن مع اندلاع الثورة الخمينية في إيران، التي جلبت كل هذا الخراب والدمار على المنطقة والعالم. وعلى كل حال، أذكر أنني كتبت مقالاً وافياً عن هذا الموضوع تعليقاً على ما قيل إنه (فيلم وثائقي) أيضاً، بثته إحدى أخوات قناة الفتنة (ال BBC عربي)؛ نُشِر عبر أكثر من وسيلة إعلامية، تحت عنوان: ما هكذا يتحقق السبق الصحفي يا (BBC). والحقيقة لا بد لكل من تابع الفيلم المزعوم جيداً أن يدرك مدى هذا الكذب الفاضح الصارخ، والتلفيق والابتذال والضحك على العقول، تغذية لنيران الكراهية والحقد والحسد، بهدف إثارة الفتنة وزعزعة الأمن والاستقرار في الدول التي اتهمها الفيلم الوثائقي باستئجار المرتزقة (بوول برايل)، ليس بتغيير النظام في قطر فحسب، بل بتهديد وجودها وضمِّها إلى السعودية لتصبح (المحافظة) الرابعة عشرة. أقول، من تابع الفيلم لا بد أن يدرك مدى هذا الدور السرطاني الخبيث لآلة الفتنة القطرية الهدامة في الدوحة، لما حفل به من مجموعة مغالطات واضحة، أوجز أهمها في: زعم مُعِد الفيلم ومقدمه (تامر المسحال)، أن بوول برايل هذا شخصية أسطورية خرافية، له قدرة خارقة على الاختفاء عن الأنظار وحماية نفسه حتى من أعتى مخابرات العالم، وهو متورط في قضايا قذرة كثيرة في كثير من دول العالم، لاسيَّما في أفريقيا والخليج؛ ومع هذا استطاع تامر الوصول إليه في الجنوب الفرنسي، لكنه لم يشرح لنا تلك العبقرية التي قادته إلى رجل عجزت ال (CIA) و (KPJ) و ال (MI6) عن الوصول إليه، وهذا يضع علامة استفهام كبيرة، يفهمها كل لبيب. زعم الفيلم أن بوول برايل جاء من فرنسا بطائرة محملة بالأسلحة على متنها (40) مرتزقاً فرنسياً، لتحط في مطار أبو ظبي، بعد أن تسللت خلسة هكذا من مطار شارلي ديغول في باريس، من دون علم الرئيس الفرنسي وقتها (جاك شيراك) أو وزير الداخلية أو رئيس الاستخبارات أو وزير الدفاع، أو حتى السلطات الأمنية في مطار كمطار شارلي ديغول.. فأي مغفل يمكنه تصديق هذه المزاعم غير قناة الفتنة؟! ومما حفل به الفيلم من مزاعم، أن المرتزقة الأسطوري الخرافي هذا، كان يدرِّب جنوده في الطابق العلوي بأحد فنادق أبو ظبي، بعد أن خزَّن فيه (30) طناً من الأسلحة الثقيلة؛ فمن واقع خبرتي عسكرياً -حيث تشرَّفت بالخدمة في الجيش العربي السعودي الباسل-، أعرف أن الفنادق والمنتجعات يمكن أن تكون مكاناً رائعاً للتفكير السياسي والتخطيط الإستراتيجي، غير إنها لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال ميداناً للتدريب على الرماية بأسلحة ثقيلة أو حتى أسلحة خفيفة، لأسباب واضحة يطول شرحها.. فمن يصدق هذا غيرك يا قناة الفتنة؟! كما جاء في الفيلم إيَّاه من مزاعم، أن دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، منحتا برايل ومرتزقته الجنسية وبطاقات إقامة، بعد أن تم تغيير أسمائهم إلى أسماء عربية، وأُعطوا زيَّاً عربياً أيضاً.. وتكمن هنا أكثر من مغالطة؛ أولاً: من يحمل جواز دولة ما، لا يحتاج لحمل بطاقة إقامة فيها، لأنه أصبح مواطناً أصيلاً، بصرف النظر عن كيفية حصوله على الجنسية، يتمتع بكافة حقوق المواطنة، وتترتب عليه كل واجباتها. ثانياً: صحيح، يمكن تغيير الاسم والملبس، غير أنه يستحيل تغيير اللسان والسحنة بجرة قلم هكذا على جواز.. فمن يصدق هذا غيرك يا قناة الفتنة؟! ومن مزاعم الفيلم إيَّاه أيضاً، أن برايل هذا دخل ميناء قطر قادماً من البحرين عبر الخليج العربي، من دون أن يكشف أحد أمره، تماماً مثلما انسل بطائرة محملة بالأسلحة والمرتزقة من مطار شارلي ديغول في باريس.. فأي عقل يمكنه تصديق مثل هذه المزاعم الرخيصة غير عقول كوادر قناة الفتنة ورعاتها؟! أخيراً، زعم الفيلم أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك اتصل شخصياً بزعيم المرتزقة برايل في اللحظة الأخيرة من ساعة الصفر لتنفيذ العملية، قائلاً: لا تورط فرنسا في حماقة.. فأوقف برايل عملية الاستيلاء على قطر وضمها إلى السعودية.. ومرة أخرى: من غيرك يا قناة الفتنة يصدق مثل هذه الترهات، وهذا التفكير السطحي الساذج، الذي يجعل رئيس دولة محترم مثل جاك شيراك، يتواصل مع زعيم مرتزقة مجرم مثل برايل، مع أن الأول لم يعرف كيف غادر الثاني بكامل عتاده على متن طائرة من أشهر مطارات باريس وأكبرها إلى أبو ظبي؟! أقول للمسؤولين في قطر، إن كان ثمَّة مسؤول يُعَوَّل عليه: أحسب أنه يكفي حتى هنا.. فأنتم لم تحرقوا مراكب العودة فحسب، بل تصنعون في كل يوم سفينة جديدة وباخرة وطائرة ومنطادٍ فضائي للتحليق بعيداً، ليس عن حضن الخليج فحسب، بل عن حضن العرب والمسلمين، والفضيلة والشيم العربية الأصيلة، والنفس الكبيرة الكريمة التي تأبى مثل هذا الانحطاط الأخلاقي.. فكفى. اللواء الركن م. د.بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود