كما يقاس تقدم المدن ونموها بقوة اقتصادها، فإن عراقة المدن تقاس بحفاظها على هويتها وتراثها العمراني، ومن المؤسف أن نجد مدننا تغرق في بحر الحداثة وتكاد تنسلخ من هويتها العمرانية إلا ما ندر منها، وبالفعل لقد أصبح التراث العمراني للمدن يعاني الهجران في ظل اكتساح أنماط وتشكيلات العمران الحديث. لذا من المهم جداً أن تعود للمدن هويتها المفقودة بالمحافظة على النمط والتراث العمراني الأصيل والذي لا يمنع معه من الاستفادة من توجهات الحداثة العمرانية بعد تطويعها وفق النمط العمراني المحلي، فكما أعلن أخيراً عن البدء في تطبيق كود البناء السعودي للارتقاء بجودة الأبنية وضمان السلامة والصحة العامة، أتطلع لأن يتم العمل على إعداد كود للتراث العمراني الوطني، بحيث يشتمل على معايير تأصل الهوية العمرانية الوطنية بمختلف أنماطها، لتساعد في الحفاظ على هوية التراث الوطني في كافة العناصر المكونة للمدن بالإضافة إلى تحديد وتطوير المواقع التراثية وأواسط المدن وفقاً لهذا الكود. هناك بلا شك جهود قائمة للحفاظ على التراث العمراني لكنها مازالت محدودة الأثر، وتقتصر على مواقع معينة في بعض المدن والمحافظات ومنها على سبيل المثال، قرية رجال ألمع التراثية، والبلدة التراثية في شقراء، وقرية الغضا التراثية، وسوق المسوكف الشعبي في عنيزة وغيرها، وعالمياً الاهتمام والحفاظ على الهوية العمرانية يتخطى ذلك بكثير، ويشمل النمط والتصميم العمراني للمدينة وواجهات المباني والأرصفة والإنارة واللوحات والمواقع المختلفة. وهناك تجارب عالمية رائدة ومتنوعة في هذا الجانب ومن الجدير الاستفادة منها حيث أسست لجان ووكالات حكومية وشبه حكومية للحفاظ على التراث والمعالم العمرانية، ولعلي هنا أسلط الضوء على أحدها وهي وكالة المعالم في بوسطن هيئة المعالم في بوسطن (Boston Landmarks Commission) التي تُعد جزءًا من دائرة مدينة بوسطن البيئية، وتهدف إلى توفير المبادئ التوجيهية للحفاظ على المباني والأماكن التاريخية في بوسطن وفق قاعدة أساس تعمل عليها الوكالة تتمثل في أن الحفاظ على معالم المدينة يكمن في فهم الماضي من خلال ما تركه الناس وراءهم، وتتلخص منهجية عمل هذه الوكالة في القيام بمجموعة الإجراءات والوظائف التخطيطية والتصميمية لإدارة الموارد الثقافية والمواقع والأحياء التاريخية، ومن ذلك تحديد المواقع والمعالم التاريخية ووضع الفعاليات الخاصة بها، وكذلك تجديد الأحياء والمباني ومراجعة تصاميمها، والترخيص للتقنيات الجديدة التي تدعم المواقع التراثية، وتقليل التأثير على الموارد الأثرية المهمة.