كلف التقدم البشر فاتورة باهظة ومكلفة جداً، حيث لم يكن أمام تضورهم من ظمأ التفوق مفر من دفع ما يطلبه مارد التفوق مهما كلف الأمر، وهذا كي ينالوا الشعور بالقوة والعظمة والتمكن، فيقول لنا التاريخ والأرقام درجة الولع البشري للغلبة والاعتلاء على الأرض والعالم، فنقرأ أنه من أجل حفر قناة السويس مثلاً كان هناك مليون وخمس مئة عامل مات منهم "120" ألفاً نتيجة الجوع والعطش والأوبئة، ومن أجل أن يربط طريق سريع بين الصين وباكستان كان لابد أن يموت "1300" عامل، ومن أجل بناء أعظم الإنشاءات الهندسية في العالم تم تقديم أكثر من ثلاثين ألف روح لقناة بنما التي تربط بين المحيطين الأطلسي والهادي، وللبرهنة على عظمة الإنسان بُني سور الصين العظيم النادر في التاريخ المعماري البشري كمشروع عسكري دفاعي ومن أجله مات عدد لم يمكن حصره، حتى أطلق عليه "أطول مقبرة على الأرض". للتقدم إغواؤه ولابد منه من أجل الازدهار الإنساني ولا بد له أن يُبنى على عظام من يمكن التضحية بهم. وهنالك على الصعيد الفردي ما يوازي تلك التضحيات المعمارية العظيمة، فالعبادة تتطلب الخشوع فيضحي العابد براحة العصيان ودعة اللهو، وللمجد المهني والعلمي يقدم الماجد الوقت والجهد. فمن قد ضحى بشيء ثمين فهو لم يخسره بل عبر إلى آخر أو إلى شيء أكبر منه، وفي هذا يكمن نبل التضحية. فمن شغفوا بشيء واحد، خصهم وتخصصوا به وحولوا مكاتبهم ومعاملهم وأدمغتهم إلى صوامع وأديرة يهبون حياتهم من أجل ما أحبوا مضحين بما سواه، وقد أراقوا عرقهم على عتبة التطور وقدموا أجود ما تفتق فكرهم هبة للإبداع وجاؤوا بثمين وعزيز وقتهم وسخروه للنماء الإنساني. فالتضحية هي تجلٍّ لعمليتي الإحلال والانزياح، فلن يحل شيء جديد إلا بعد أن تفرغ له مكاناً وزمناً، ولهذا لابد أن تحضر التضحية على طاولة القرار، وأن تكون عصا في عجلة العبور وترساً في ماكينة التغيير. يقول تشارلز بوكوفسكي: "إذا أردت أن تحاول، سر على طول الطريق أو لا تبدأ. لأنه قد يعني أن تفقد أحبابك، أقاربك، وربما عقلك. إنه قد يعني ألا تأكل لثلاثة أو أربعة أيام. قد يعني أن تتجمد فوق كرسي حديقة. قد يعني السجن، قد يعني السخرية. قد يعني العزلة، والعزلة هدية. الآخرون هم اختبار لقدرتك على التحمل وإلى أي مدى تريد القيام بالأمر. سوف تقوم به بالرغم من الرفض وأسوأ الاحتمالات. إلا أنه سيكون أفضل من أي شيء آخر يمكنك تخيله، إذا كنت ستحاول، سر على طول الطريق، لا يوجد شعور آخر يضاهي هذا الشعور..".