رحل حجاب بن نحيت وترك لنا ذاكرة شعبية تشكل جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة مجتمع.. تطورت خلال عقود ذائقته.. وسيستدعي بعض أبناء ذلك الجيل ممن عاشوا تلك المرحلة أو عايشوها حنيناً لأيام خلت وصحبة رحلت وأيام كانت.. الحنين إليها جزء من وجدان إنسان يشده لبعض ماضيه الكثير.. العلاقة بين الأغنية وظرف السماع الأول، يجعل الأغنية ليست مجرد كلمات أو لحن أو أداء.. إذ تظل هناك حكاية أخرى، تظل حالة استدعاء لا يمكن فصلها عن مرحلة السماع الأول وظروفه وعلاقاته.. وسيجد كل منكم أن كل أغنية أثيرة لديه أو تشكل في مخزونه الذهني وقعاً خاصاً.. سيجد أن لها حكاية خاصة أيضاً. وفيما أظن أن من يستدعي بعض قديم الأغاني أحياناً، إنما يستدعي جزءًا مضى من حياته، وحكاية كانت، ورفاقاً منهم من مضى ومنهم من ترحّل في الآفاق. إنه يستدعي قصة ما، وربما لحظة عشق ما، أو ذكرى خاصة، وربما أشياء أخرى مما طوى الزمن أوراقها، إلا أنها بقيت حالة حضور مرحلة بعينها.. وكأنها نوع آخر من النوستولوجيا أو حنين لماضٍ لن يعود. إنه توقف وجداني خاص، حيث لا يمكن أن تترى صور بتلك الكثافة.. لولا حضور أغنية حمولتها تتجاوز فكرة الكلمات واللحن والأداء إلى استدعاء الذاكرة.. وكأنها شريط سينمائي بالأسود والأبيض يمر أمام عينيه وينبش ذاكرته وقد يراكم وجده أيضاً. الأغنية ذاكرة تاريخية، سواء شعر البعض بهذا أم لم يشعر. إنها تختزن مشاهد وحياة وشخوصاً وأحداثاً.. والعلاقة بينها وبين المناسبات الأولى لسماعها، هو ذاك الرابط الأثير الذي يجعل البعض مشدوداً للاستعادة.. ليس للفن ذاته، ولكن لهذا المزيج المؤثر الذي يجمع وقع السماع بلحنه وكلماته وأدائه.. وبما هو أكثر إثارة، وهي الصور والوقائع.. وكثير منها يمس شغاف النفس ويثر لواعج الفقد لمرحلة أو أشخاص أو حياة.. لتتراوح حالة الوجد بين ابتسامة عابرة أو دمعة حارة تفر بلا تحسب. وإذا كان تطور الذائقة يفرض خيارات تناسبها، وما كان يطرب له أحدهم في مرحلة من عمره قد لا يشده في مراحل أخرى، إلا أن هذا لا يحول دون أن تظل الأغنية القديمة لها وقعها في أذن جيل ارتبط بظروف انتشارها وناسها وحكاياتها. وإن كان جيلنا أكثر حظاً بحضور فن عربي تفاعل مع قاماته، ومازالت تلك الإبداعات تشكل حضوراً لجيل مضى وجيل حاضر وجيل سيأتي.. يتذوق هذا الفن الراقي الأصيل المفعم بكل معاني الإبداع والعلو كلمةً ولحناً وأداءً.. فإن ثمة فناً شعبياً مازال يشكل في ذاكرة جيل صعود وتطور الذائقة الشعبية.. وبالتالي سيحظى بمكانته باعتباره مرحلة مهمة عند التأريخ لتطور الأغنية المحلية. رحل قبل أيام قليلة الشاعر والفنان حجاب بن نحيت.. وهو ليس شاعراً كبيراً فقط، إنما شهرته بدأت منذ أطلق أغنياته الأولى في مطلع الستينيات من القرن الماضي. ومهما كانت تلك الأغنيات الشعبية بسيطة في مقوماتها كلمةً وأداءً ولحناً.. حيث يقوم بمعظم الأدوار موهوب مثل حجاب بن نحيت.. إلا أنها انتشرت انتشاراً كبيراً في حينها.. وشكلت جزءًا من ذاكرة فنية شعبية طغت على ما سواها في مرحلة لها حدودها وظروفها وثقافتها وتكوينها.. ومثل أي قطعة يمكن سماعها مازالت تشكل لجيل من نوع آخر ذاكرة يستدعي منها خلالها مرحلة بصورها وحضورها وعشقها وبساطتها ولمحاتها ورفقتها. وإذ يرحل حجاب بن نحيت فإنه يترك لنا ذاكرة شعبية تشكل جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة مجتمع.. تطورت خلال عقود ذائقته، فقد لا يطرب لها جيل مختلف ذائقةً وتكويناً اليوم.. ولكن حتماً سيستدعي بعض أبناء ذلك الجيل ممن عاشوا تلك المرحلة أو عايشوها حنيناً لأيام خلت وصحبة رحلت وأيام كانت.. الحنين إليها جزء من وجدان إنسان يشده لبعض ماضيه الكثير. ومن اللافت أن القنصل الأميركي في الظهران آراتشنا كورهين، لم تفوت تلك الذاكرة الفنية الشعبية.. وقدمت عزاءها في رحيل حجاب بن نحيت.. وبطريقة طريفة من خلال استدعاء إحدى أغنيات حجاب الشهيرة «عودي عليّ بسرعة تسبق البرق». هل كان يدرك القنصل الأميركي تأثير حجاب وشعبيته بين آلاف العمال السعوديين في شركة أرامكو منتصف القرن الماضي؟ هل كان يدرك أن ثمة جيلاً من عمال أرامكو من أبناء البادية والقرى كان حجاب يغني لهم ويثير هواجسهم ويحكي بلسانهم.. هل كان يعرف أبعاد مرحلة كان الفنان الشعبي الأول، هو الصاحب لكل شاب اغترب عن باديته وأهله ليعمل في الشركة ناقلاً أو عاملاً أو متدرباً ليصبح يوماً جزءًا لا يتجزأ من تاريخ أكبر شركة نفط في العالم.. ولكن ظلت هواجسه ومراتع صباه وحكايات أنسه.. يصدح بها فنان موهوب وشاعر مطبوع وعازف عود متمكن يدعى حجاب بن نحيت. رحل حجاب بن نحيت إلى -رحمة الله- وأعتقد أن كثيراً من الناس لن تتذكر الوجيه والشيخ حجاب بن نحيت.. لن تتوقف عند سوق حجاب بالنسيم، ولا عند ثروته العقارية.. إلا أنها ستتوقف أمام فنه القديم وتلك الأغاني التي صدح بها يوماً واستقبلتها ذائقتها بترحاب.. ولاقت انتشاراً واسعاً.. ستتوقف أمام شعره المتقدم منه والمتأخر.. المتقدم بأيام شباب تذكرهم بما مضى وحكايات الزمن الآفل.. والمتأخر بشعر الحكمة والزهد والاقتراب من الله في خريف العمر.. التي أدركها شاعر متمكن يملك حساً مرهفاً ووجداناً كبيراً وإيماناً عميقاً. Your browser does not support the video tag.