يموت العظام.. ولكن تبقى أعمالهم خالدة.. هكذا كان رامبرانت Rembrandt من أعظم فناني هولندا، عاش بين 1606-1669م في عصر الباروك الفني في أوروبا. تعلّم فن الرسم والتصوير من صغره على يد أعظم وأشهر فناني هولندا آنذاك، وبدأ حياته بحماس فني شديد وحب كبير لأعماله الفنية وفاقت قدراته الفنية عدة فنانين مجتمعين؛ حيث تميز بسرعته ومهارته ودقته وبراعته في تكوين الأعمال الفنية ورسمها، وهو من أبرز فناني البورتريه في أوروبا وله محاولات عديدة جبارة في رسم الشخصيات المختلفة؛ وذلك لأنه وقع أسيراً للجمال البشري المتمثل في الجسد الإنساني، وكان بارعاً في رسم الوجوه لدرجة أنه يسبر بريشته أغوار النفس البشرية ولم ينقل الوجوه كما هي مثلما يفعل بقية الفنانين بل نقلها وهو مُنقّب ومُحلّل عن النفس الإنسانية ويعكس ما فيها من جوانب سيكولوجية دفينة يظهرها بألوانه الداكنة ويصارع بفرشاته المحمّلة بالضوء غموض الظلام وتتفاعل المتضادات عندها بإبداع ليس له حدود وينتج أبرع أعماله التي تعد من الكنوز الفنية المحفوظة الآن في المتاحف الأوروبية والعالمية، فالنور عند رامبرانت يأتي أحيانا من داخل اللوحة وأعماله غارقة في اللون الداكن وفرشاته مغطاة بالألوان العميقة وضرباتها السريعة المحملة بالخبرة، وأجزم بالقول: إن رامبرانت استطاع «أنسنة» الضوء بحسه المرهف أي أنه يعطي النور طابعاً إنسانياً مختلفاً. المتأمل لحياة رامبرانت يجد فيها قصة درامية واسعة ونهاية تراجيدية حزينة لحياة إنسان مظلوم وفنان مقهور؛ فقد بدأ حياته بالبذخ والكرم وحب الحياة ورسم الأثرياء وحياتهم المليئة بالملذات والشهوات وانتهى معبراً عن حياة الفقراء والمتسولين ومدفونا بينهم. فلقد كان لجدارية حراس الليل التي رسمها عام 1642م دور كبير في القضاء على مستقبل رامبرانت الفني؛ عندما لم تعجب اللوحة بعض الحراس الذين رأوا أنه لم يوفهم قدرهم في رسم اللوحة ولم يبرزهم بالشكل الذي يرضي غرورهم معتبراً نفسه فناناً حراً وليس مقاولاً يتحرك مثلما يملى عليه صاحب العمل، أخذوا يشوهوا صورته وسمعته الشخصية ويتهمونه بالفسق والفجور، وفي ذروة هذه الأزمة تموت زوجته وعشيقته ساسكيا وطُرد من بيته وألقوا بأثاثه في الطريق وأشهروا إفلاسه وصادروا مقتنياته الغالية، وهي عبارة عن أعمال فنية مختلفة لمجموعة من الفنانين الأوربيين والشرق آسيويين وأعمال أساتذته وباعوها لنفسهم وغيرهم في مزاد رخيص بأبخس الأثمان، واضطر بعد ذلك إلى السكن في بيت حقير في حي قديم، وكُتب عليه أن يرى سمعته الشخصية وتاريخه الفني يتهاوى أمام ناظريه ولكن ما بيده حيلة. لكن الغريب في ذلك أن رامبرانت كان كلما ازداد عليه الظلم والطغيان وقسوة الظروف كان يزداد تألقاً في عطائه وإنتاجه الفني فقد رسم آنذاك مجموعة واسعة من روائع الأعمال، وظل نظره يأخذ في التناقص شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى مرحلة قريبة من العمى وكان يرسم لوحات كبيرة ضعف المساحات التي كان معتاداً للرسم عليها وقد انعكست على ألوانه قسوة الظروف ومرارة الظلم وهوان الفقر، ويتضح ذلك على أعماله الأخيرة مثل آخر بورتريه شخصي رسمه لنفسه حيث حمّل وجهه معاناة السنين وكبر العمر وتراكمات الحزن واليأس والتعاسة والإحساس بالظلم والقهر، ويعتبر رامبرانت من أكثر الفنانين الذين رسموا أنفسهم Self Portrait حيث رسم بورتريهات شخصية لخمس مراحل من حياته كانت أكثرها مفعمة بالحياة والشعور بالسعادة. وكانت نهايته تعيسة في عام 1669م حين دفن في مراسم جنازة حقيرة وألقي بجسده في مقابر الفقراء والمتسولين في هولندا. ونشاهد عملين من أعمال رامبرانت تظهر لنا حقيقة الإنسان الذي يجمع في حياته المتناقضات الشاسعة والتباين الصارخ. العمل الأول لرامبرانت مع زوجته ساسكيا رسمها عام 1636م، وهم يحتفلون بعيد زواجهم ويظهر رامبرانت فيها ضاحكا وسعيداً تملؤه مشاعر الفرح والنضرة ومقبلاً على الحياة، وهذا العمل مليء بدراما المسرح المعتمدة على العتمة والنور، ويحتوي على قيم إبداعية عالية وفنية عظيمة وجمالية مرهفة ونلاحظ رامبرانت وزوجته ينظران إلى الخلف، وكأن الناظر إليهما جالساً معهما ويعتبر جزءاً من العمل ويشعر بالحميمية والسعادة لرؤيتهما. والعمل الآخر بورتريه شخصي لرامبرانت قبل وفاته بثلاث سنوات في منزله رسمها عام 1666م ونلاحظ فيها عمق اللون وضربات الفرشاة المليئة بالحزن والإحساس بالظلم ونظرة مليئة بالشعور بالألم والضعف. للأسف لم تعرف قيمة رامبرانت الفنية إلا بعد وفاته بأعوام طويلة من فنانين خارج هولندا أخذوا يتساءلون من صنع هذه الأعمال العظيمة؟ وبدأوا يجمعون تراث رامبرانت الفني ليتذوقوه جيداً ويقوموا بدراسة القيم الجمالية والفنية والإبداعية والتعبيرية المتضمنة داخل هذه الأعمال الرائعة. * فنان وناقد تشكيلي بورتريه لرامبرانت رسمها قبل وفاته بثلاث سنوات Your browser does not support the video tag.