ذاكرة الإسكندرية عبر الصور والوثائق جعلتني أستعيد اهتمامي بالعمارة في العالم العربي في القرنين الأخيرين، اللذين حدث فيهما انهيار لمنظومة الهوية، ومنظومة المكون الجمالي الحرفي في المنطقة بشكل عام.. يندر أن تتكرر زيارتك لمكان ما ويظل نفس التوق نحوه، هذا الإحساس يرتبط بمدينة الإسكندرية إلى حد كبير، فهذه المدينة التي زرتها كثيراً في الماضي، ثم انقطعت عنها سنوات، وهأنذا أزورها مرة أخرى من أجل الحديث عن عمارة مسجد المستقبل وفي صرح مهم هو مكتبة الإسكندرية، أعادت لي الكثير من الذكريات «المكانية» التي طالما ربطت بين السياسة والعمران. أتذكر زيارتي الأولى للمكتبة قبل عشرة أعوام تقريباً، وكانت في بداية نشاطها، ورئيسها في ذلك الوقت المعمار الدكتور إسماعيل سراج الدين (وهو شخصية معروفة رأس البنك الدولي وزار قسم العمارة في جامعة الملك فيصل بالدمام مع المعار المصري المعروف حسن فتحي العام 1980م، وحرر سجل أبحاث مؤتمر العمارة الإسلامية في ذلك الوقت). اهتمامي بالمكتبة كونها تشكل نقلة معمارية، ومبناها حصل على جائزة الأغاخان، وقام بتصميمها مجموعة معماريين نرويجيين يطلقون على أنفسهم «سنوهيتا»، وبالطبع شهرة هذه المجموعة اخترقت الآفاق بعد مكتبة الإسكندرية، وأسند لهم تصميم مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي في الظهران. لكن مكتبة الإسكندرية ليست فقط مكتبة؛ لأني عندما زرتها المرة الأولى لم تتح لي الفرصة الاطلاع على هذا الصرح المعرفي العلمي المهم، بينما هذه المرة نظم لي مسؤولو المكتبة (الدكتور خالد عزب والدكتور محمد الجمل وزملاؤهم) جولة في المكتبة، وخصوصاً «كواليس المكتبة» حيث توجد المختبرات ومراكز الأبحاث لحفظ المخطوطات وترميمها، والمتاحف المتعددة التي تحتويها المكتبة خصوصاً متحف «ذاكرة الإسكندرية». هذا الجزء - على وجه الخصوص - استوقفني لأني مهتم بذاكرة المدن، وكنت قد اقترحت في السابق أن يكون هناك متحف لذاكرة الرياض، وأن يكون مثل هذا المتحف في كل مدينة سعودية، والمكتبة هي المكان المناسب له، وهذا ما رأيته مثلاً في جميع المكتبات العامة في المدن البريطانية، حيث توجد مكتبة مركزية في كل مدينة، وفي هذه المكتبة يوجد «أرشيف» ومتحف لذاكرة المدينة. ذاكرة الإسكندرية عبر الصور والوثائق جعلتني أستعيد اهتمامي بالعمارة في العالم العربي في القرنين الأخيرين، اللذين حدث فيهما انهيار لمنظومة الهوية، ومنظومة المكون الجمالي الحرفي في المنطقة بشكل عام. ربما تكون هذه الذاكرة مؤلمة، لكنها تختزن كثيراً من التجارب التي يجب أن نتعلم منها. زميلي المهندس أحمد عبدالمنعم وهو من مركز دراسات الحضارة الإسلامية في مكتبة الإسكندرية كان مرافقاً لي في هذا المكان بالذات، وكان يقول: أنا من سيشرح لك تاريخ الإسكندرية، قلت له: هذه المدينة هي جزء من ذاكرتي «الوسيطة» عندما كان التوق للأمكنة العربية التي نشأت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يأسرني، وأكدت له أن الإسكندرية وجزءها «الكولونيالي» المهجن الذي يجمع فتاتاً من تاريخ عربي ممتد ونكهة أوروبية لا يمكن إخفاؤها هو أكثر ما يشدني رغم تدهوره المحزن. نهاية هذا الأسبوع كانت «أسكندرانية» جمعت جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد ومكتبة الإسكندرية في ندوة مهمة ومؤثرة حول عمارة المسجد في الحضارة الإسلامية، وبالطبع الإعلان عن الترشيح للدورة الثالثة للجائزة التي تشمل مناطق العالم الإسلامي كافة. الندوة عقدت في صرح علمي معاصر، لكن جذوره تعود للقرن الثالث قبل الميلاد، ونحن بالطبع كنا نفكر من البداية أن عمارة المساجد التي تعود إلى أكثر من 1400 عام تراكمت حولها التجارب جغرافياً وزمنياً، لكنها ممتدة في الزمن إلى المستقبل، وبالتالي ورغم أننا نتحدث عن عمارة المسجد في الحضارة الإسلامية إلا أننا كنا نبحث عن صناعة الأفكار الجديدة، وبشكل خاص عن دور المسجد في صناعة الأفكار المعمارية الجديدة كما كان عبر التاريخ الإسلامي. أجواء المكتبة ذات الفضاء المفتوح والحركة الدؤوبة خيّمت على مستوى الحوار الذي كان راقياً، شارك فيه أساتذة في التاريخ والآثار والعمارة، وحضره عدد كبير من طلاب العمارة، هذا الحوار جعلنا نفكر بشكل أوضح كيف أن المسجد في التاريخ الإسلامي كان هو «المختبر» المعماري الأهم والأكثر تأثيراً، وكيف أن جميع الفنون والنظم الإنشائية نشأت وتطورت من عمارة المساجد، فكيف انقطعت تلك التجربة وأين ذهب ذلك المختبر؟ ربما النتيجة الأهم من هذا اللقاء هي أننا كنا متفقين جميعاً على استعادة دور المسجد معمارياً، وأن يكون هذا الهدف توصية على مستوى السياسة التعليمية والمهنية ليس فقط في العالم العربي بل في كل مكان يوجد فيه من يحتاج إلى المسجد. Your browser does not support the video tag.