في الشهر الماضي، وللمرة الأولى في التاريخ، يجف نهر دجلة في العراق، ويتمكن الإنسان من عبوره مشيا على الأقدام، حدث ذلك بسبب حجز تركيا مياه النهر لملء سد إليسو العملاق على الحدود بين البلدين، وما زاد الطينة بلة أن إيران كانت تعمل طوال السنوات الماضية على تحويل 43 رافدا صغيرا كانت تصب في دجلة، (أبرزها نهر الزاب)، الأمر الذي خفض منسوب النهر حتى قبل إنشاء السد التركي.. وفي حين اكتفى البعض بالاعتراض والتنديد، سلم البعض بالأمر، وقال إنها نبوءة تحدث عنها الأئمة والصالحون: «فلا حول ولا قوة إلا بالله». ولكن؛ إن أردنا الحديث من وجهة نظر علمية، نشير إلى أن حياة الأنهار (مع البحيرات التي تشكلها) تعد قصيرة جيولوجيا، ومقارنة بعمر الأرض السحيق لا نشعر نحن بذلك؛ لأن حياتنا نفسها قصيرة جدا، مقارنة بالأنهار التي يمكن أن تجف أو يتحول مجراها خلال بضعة قرون.. حدث ذلك في مواقع كثيرة حول العالم، أبرزها الربع الخالي، ومنخفض القطارة في مصر؛ فالربع الخالي مثلا كان منطقة أنهار وغابات، ومنخفض القطارة كان بحيرة عذبة (تفوق مساحة الكويت)، يغذيها نهر النيل. غير أن تحولا بسيطا في محور الأرض تسبب في تصحر الربع الخالي، في حين جفت بحيرة القطارة؛ بسبب تحول مجرى نهر النيل، «وأصبحت اليوم أكبر منخفض صحراوي في العالم، وسبق أن كتبت مقالا اقترحت إعادة ملئه بمياه النيل بدل أن تذهب هباء في البحر المتوسط». الجديد في الموضوع هو تطور قدرات الإنسان في العصر الحديث لدرجة تسببت (للمرة الأولى في التاريخ) في قطع الأنهار، وتجفيف البحيرات، وإنشاء بحيرات اصطناعية خلف سدود خاصة به، كما فعلت تركيا مع سد إليسو، وإثيوبيا مع سد النهضة الذي يعد الرافد الأساسي للنيل. أقسى حالات الجفاف والانحسار تحدث هذه الأيام في منطقة الشرق الأوسط.. أكثرها وضوحا التراجع المستمر لمياه البحر الميت؛ بسبب إسرائيل التي قطعت عنه نهر الأردن رافده الأساسي لدرجة تهدد باختفائه تماما بحلول 2050. ... والمشكلة نفسها يعانيها أيضا بحر الأورال، الذي كان رابع أكبر بحيرة في العالم، وتراجع اليوم لنصف مساحته في الماضي.. فنتيجة للخطط الزراعية الخاطئة، التي تطلب تحويل مسار نهري سيحون وجيحون، انخفض عمق الأورال من 218 قدما إلى 108 أقدام، ومساحته من 62 ألف كلم مربع إلى 30 ألف كلم منذ عام 1960.. أما في إيران فاختفت بحيرة أرومية خلال آخر 25 سنة فقط، بعد أن كانت تعد ثاني أكبر بحيرة مالحة في العالم، «وشاهدت لها صورا ترسو فيها السفن وقوارب الصيد فوق كثبان الرمل». كما اختفت بحيرة هامون العذبة، وأكثر من 300 جدول ونهر صغير في إيرانوتركيا وبادية الشام، في حين كتبت مقالا خاصا عن اختفاء سيول وبحيرات موسمية في المدينةالمنورة ما زلت أتذكرها شخصيا. كل هذه المواقع يمكنك رؤية آثار انحسارها من خلال «جوجل أيرث»، ومقارنتها بصور الأقمار الاصطناعية القديمة.. حداثة التصوير الفضائي نفسه تؤكد أن عمر الأنهار والبحيرات أصبح للمرة الأولى في التاريخ أقل من عمر الإنسان؛ بسبب جشع الإنسان نفسه. وطالما بدأنا مقالنا بنهر دجلة، فدعوني أخبركم بحديث خاص عن نهر الفرات: فقد جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبلٍ مِن ذهبٍ، يقتتل الناس عليه، فيُقتَل مِن كلِّ مائةٍ تسعةٌ وتسعون، ويقول كلُّ رجلٍ منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو!». Your browser does not support the video tag.